[ ص: 193 ]
مسألة في العلو [ ص: 194 ] [ ص: 195 ] سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني -رضي الله عنه وأرضاه-: ما تقول في رجلين اختلفا في الاعتقاد، فقال أحدهما: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، وقال الآخر: إن الله سبحانه لا ينحصر في مكان، وهما شافعيان. فبينوا لنا ما نتبعه من عقيدة رضي الله عنه، وما الصواب فيه؟ الشافعي
فأجاب
الحمد لله. اعتقاد رضي الله عنه هو اعتقاد سلف أئمة الإسلام، الشافعي كمالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، وإسحاق بن راهويه، كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين. وكذلك وسهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة. أبو حنيفة
قال في أول خطبة "الرسالة" : "الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه". فبين رحمه الله أن الشافعي - صلى الله عليه وسلم -. الله موصوف بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله
وكذلك قال لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث. [ ص: 196 ] أحمد بن حنبل:
وهكذا مذهب سائرهم أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ويعلمون أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإنه كما أن ذاته ليست كالذوات المخلوقة فصفاته ليست كالصفات المخلوقة. بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن كل نقص وعيب.
وهو وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وهو الذي كلم سبحانه في صفات الكمال لا يماثله شيء، فهو حي قيوم سميع بصير عليم قدير رؤوف رحيم، موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا. ولا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمع أحد ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتجليه تجلي أحد.
والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وحريرا وذهبا، وقد قال ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء . فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه المخلوقات المشاهدة مع اتفاقهما في الأسماء، فالخالق أعظم علوا ومباينة لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق وإن اتفقت الأسماء. ابن عباس:
وقد سمى نفسه حيا عليما سميعا بصيرا ملكا رءوفا رحيما، [ ص: 197 ] وسمى أيضا بعض مخلوقاته حيا، وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رءوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. قال الله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وقال الله تعالى: وهو العليم الحكيم ، وقال: وبشروه بغلام عليم ، وقال: إن الله كان سميعا بصيرا ، وقال: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ، وقال: إن الله بالناس لرءوف رحيم ، وقال: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .
وهو سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير . وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث [ ص: 198 ] رواه أنه قال للجارية: "أين الله؟ "، قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ "، قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". مالك والشافعي وأحمد بن حنبل في صحيحه وغيرهم. ومسلم
لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه، فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
وقد قال إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان . وقالوا مالك بن أنس: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال لعبد الله بن المبارك: كما قال هذا وهذا . أحمد بن حنبل
وقال خلافة الشافعي: حق قضاها الله في سمائه، فأجمع عليها قلوب أوليائه. وقال أبي بكر : كنا والتابعون متوافرون نقر بأن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. الأوزاعي
فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه فهو ضال مبتدع جاهل.