فصل
وكذلك كما يمتنع أن يكون في الشخص الواحد أن يكون علة لنفسه ومعلولا لها في الفاعل والغاية، يمتنع أن يكون جزء علته أو شرط علته، فلا يكون فعل فاعله محتاجا إلى وجود شيء منه، ولا يكون في المقصود شيء منه، وكذلك أفعاله، كما لا يجوز أن يكون حدوث اعتقاده وقصده وقدرته منه، فلا يجوز أن يكون علة كل فعله حادثا بفعله الذي حدث بفعله، ولا يجوز أن يكون حادثا بعلة فعله جزؤها أو شرطها المتقدم على المعلول، لكن يجوز أن يكون هو فعلا في حدوث المعلول بحيث لا يحدث هذا الفعل إلا مع هذا الفعل أو نحو ذلك، فإن الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدم عليه. وأما العلة فيجب تقدمها عليه، فلو كان الفعل علة أو جزء علة لزم تقدم كل منهما على الآخر.
وأما كون أحد الفعلين مشروطا بالآخر فهذا لا محذور فيه، وكذلك لا محذور في كون الفعل يحدث بأسباب بعضها من الإنسان، ويكون ذاك السبب متقدما على الفعل، فكذلك لا يجوز أن تكون لذته المنقضية هي العلة الغائية مطلقا، لوجود قصده وعمله، ولا جزءا من العلة، وإن كانت شرطا في وجود المعلول الذي هو المقصود لذاته.
ولهذا يوجد بعد حصول اللذة نفسه تطلب أمورا أخرى وتقصدها، كما قال: ولا تطمئن القلوب وتسكن إلا إلى الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، وذلك لأن ما يتعقبه العدم لا يصلح أن يكون [ ص: 196 ] مقصودا لذاته، فإنه لو كان هو المقصود بالذات، لكان حال القاصد له بعد عدمه كحاله قبل وجوده، فيمتنع أن يكون مقصودا، لأن ذلك عبث وسفه، كما تقدم بيانه، وإنما يقصد لأنه بعد عدمه يبقى أمر موجود يصلح أن يكون مقصودا، كما أن الأكل والشرب ولذة ذلك وإن كانت منقضية، ولذة الوقاع وإن كانت منقضية، فليست هي المقصودة من هذا الفعل بالذات، بل وإن قصدها الحيوان لما فيها من اللذة، فالمقصود مع ذلك ثبات جسمه وبقاؤه ووجود النسل، وهذه الغاية فإن لم يقصدها الحيوان الفاعل، فهي مقصودة لخالق الفعل وغيره، وذلك أن الحيوان لما لم يكن مستقلا بالفعل، لم يجب أن يكون مستقلا بالقصد الذي هو مبدأ الفعل، بل كما أن فعله لغيره فيه تأثير، فلغيره مقصود، فالسبب الفاعل كالسبب الغائي، ثم الإنسان إذا لم يقصدها، لا يمتنع وجود الفعل، بل يقتضي ذلك فساد حاله، فإنه من لم يقصد بأفعاله إلا نيل اللذة العاجلة فهذا أفعاله فاسدة باطلة، وهي حال من اتبع هواه، ومن كان لا يريد إلا العاجلة.
ونحن إنما قصدنا تبيين فساد مثل هذا القصد والعمل، وأنه لا يصلح حال صاحبه، لا تبيين امتناع الفعل بدونه، فإن امتناع الفعل ووجوده يتعلق بخلق الله وما ييسره من الأسباب، فهناك يتبين أنه لو كان هو الغاية أو جزؤها لامتنع أن يكون موجودا مخلوقا.
وأما في قصد الإنسان فتبين أنه يكون فسادا وضررا وشرا كما تقدم، فإن الموجودات لا توجد بدون أسبابها الفاعلة، ولا تكون موجودة من الله بدون غاياتها المقصودة، وهو الحكيم في تلك [ ص: 197 ] الغايات.
وأما الحيوان فلا بد له من مقصود بفعله، لكن لا يجب أن يكون ذلك الذي قصده مصلحة له ونافعا له، كما أنه لا بد له من قصد وقوة، لكن لا يجب أن يكون مقرا بأن ذلك بإعانة الله وقدرته.
وإذا تبين أنها ليست مقصودة بالذات، فالمقصود بالذات لا بد أن يكون باقيا أبديا، كما بينا أن ما يتعقبه العدم لا يكون مقصودا بالذات، وكذلك أيضا لا بد أن تكون ذات العلة الغائية متقدمة على الفعل، وإن كان ما يطلب بالحركة إليها يكون لذة حادثة، وإن كانت متواصلة، وهذا مما نبينه هنا، وإن لم يكن مبينا فيما مضى، وذلك أن العلة الغائية هي علة بماهيتها وحقيقتها المقصودة لفاعلية العلة الفاعلية، إذ لولا كون تلك الحقيقة تستحق أن تطلب وتقصد لامتنع أن يقصدها الفاعل، فامتنع فعلها، ولا يجوز أن يكون الفاعل بإرادته وفعله جعلها مقصودة مرادة، لأن إرادته متوقفة على كون المراد يجب أن يكون مرادا، فلو كان كون المراد مرادا حاصلا بإرادته لزم الدور، وإذا كانت إرادته هي [التي] جعلت المراد مرادا، والمراد هو الذي جعل الإرادة مريدة، بل لابد من حقيقة تكون هي بنفسها تستحق أن تكون مرادة مقصودة، وحينئذ يراد ويقع الفعل، كما أنه لا بد من حقيقة ... فاعلة، وحينئذ فيفعل أفعالا، فلا يجوز أن يكون مفعولها أحدثها وفعلها.