والزيارة المشروعة للمسلم : أن يسلم عليه ويدعى له ، كما أن الصلاة مقصودها الدعاء له . ولهذا نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الأمرين في حق المنافقين . كما قال تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم . وقد قال طوائف من السلف والخلف : وهو القيام على قبورهم بالدعاء والاستغفار . نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم;
فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له ، فأما أو الإشراك بها فذلك كله حرام بإجماع المسلمين . كما في الصحيحين اتخاذ القبور مساجد يحذر ما صنعوا . قالت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرضه الذي مات فيه : "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"; : ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا . [ ص: 368 ] عائشة
وفي صحيح مسلم خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" أبا بكر . أنه قال قبل أن يموت بخمس : "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت
وفي السنن عنه أنه قال : . "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"
وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه ، وقصدها لأجل الدعاء عندها ، ولا التمسح بها وتقبيلها; سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم . بل ليس تحت أديم السماء ما يشرع التمسح به وتقبيله إلا لا تشرع الصلاة عند القبور الحجر الأسود ، والركن اليماني يستحب التمسح به .
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين ، فلم يمسحوا إلا الركنين اليمانيين ، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك; فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقام غيره من الأنبياء والصالحين؟ وقد قال الله في كتابه : وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا . قال طوائف من الصحابة [ ص: 369 ] والتابعين : "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم لما طال عليهم الأمد صوروا صورهم ، فكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان" .
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه في الموطأ : مالك "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" . وفي السنن عنه أنه قال : . "لا تتخذوا قبري عيدا"
، فيكون بمنزلة لحم الخنزير ، وأما السفر للتعريف فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام ببيت المقدس مثلا ، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد الثلاثة فهو أيضا منهي عنه ، وإن كان وجد في ذلك من عمد إلى هذه البدع التي فيها من الشرك ما فيها ، وتعبد بها وأقام بها ، وقصد ما يقصده من البقاع لأجلها ، وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، أليس هو ممن استبدل السيئات بالحسنات؟
الوجه الثاني : أنه لو قدر أنه قصد بعض هذه البقاع قصدا مشروعا مثل السفر إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه ، فإن هذا عمل صالح باتفاق المسلمين ، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة ، مثل البدع التي تفعل هنا من السماع [ ص: 370 ] للمكاء والتصدية في النصف وعشر ذي الحجة ونحو ذلك ، ومثل استلام بعض ما هناك من الأحجار ، فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين للبيت العتيق ، ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وظن أجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات . فالزيارة إذا سلمت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية ، والسفر إلى الثغر للرباط أفضل منها ، والعدول عن الفاضل إلى المفضول مع استوائهما غير محمود .
الوجه الثالث : أن من الناس من يقصد المجاورة ببيت المقدس ويدع المجاورة بالثغر الذي هو قريب منه . وهذا الباب من أفضل الأفضل وأجلها ، وهو فرض على الكفاية ، ومعلوم أن هذا أعظم خسرانا ، وأشد حرمانا ، وأبعد عن اتباع الشريعة; فإن المجاور بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المرابطة لاختلاف المكانين . أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذا إلى هذا لا يصدر إلا من جهل أو من ضعف إيمان ، اللهم [إلا] إذا نذر هذا فيكون هذا معذورا . وإنما الكلام فيمن يقدر على الأمرين .
ولهذا [لما] كان أهل البدع مهملين أمر الجهاد معظمين للزيارات ، استولى الكفار على كثير من الثغور ، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين من شاء الله ، وكان قد جرت فيه بدع كثيرة .
ومن ذلك من يقصد بعض هذه البقاع ، إما جبل لبنان وإما غيره ، إما لزيارته لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم ، ويدع أن يقصد للرباط في سبيل الله ، فإن هذا أيضا من الضلال العظيم ، وأصل السفر [ ص: 371 ] إلى الزيارة غير مشروع ولا مأمور به ، بل هو من البدع والضلال .