والمقصود هنا أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذموما بل محمودا ، ومن فعل هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذموما ولا معاقبا ، ولا يقال إن هذا عمله لغير الله ، فيكون بمنزلة المرائي والمشرك ، فذاك هو . وأما من فعلها لمجرد المحبة الفطرية فليس بمشرك ولا هو أيضا متقربا بها إلى الله ، حتى يستحق عليها ثواب من عمل لله وعبده ، بل قد يثيبه عليها بأنواع من الثواب : إما بزيادة فيها في أمثالها ، فيتنعم بذلك في الدنيا ، ولهذا كان الشرك المذموم وإن لم يتقرب بها إلى الله ، ولو كان فعل كل حسن إذا لم يفعل لله مذموما يستحق به صاحبه العقاب لما أطعم الكافر بحسناته في الدنيا إذا كانت تكون سيئات لا حسنات ، وإذا كان قد يتنعم بها في الدنيا ويطعم بها في الدنيا ، فقد يكون من فوائد هذه الحسنات ونتيجتها وثوابها في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه ، فيكون له عليها أعظم الثواب في الآخرة . [ ص: 197 ] الكافر يجزى على حسناته في الدنيا
وهذا معنى قول بعض السلف : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله . وقول الآخر لما قيل له : إنهم يطلبون الحديث بغير نية ، فقال : طلبهم له نية ، يعني: نفس طلبه حسن ينفعهم . وهذا قيل في العلم لخصوصيته ، لأن العلم هو الدليل المرشد ، فإذا طلبه بالمحبة وحصله عرفه . الإخلاص لله والعمل له
ولهذا قال من قال : هو من النظر الأول الذي هو مقدمة العرفان ، فإن القصد والنية مشروط بمعرفة المقصود المنوي به ، فإذا لم يعرفه بعد كيف يتقرب إليه؟ فإذا نظر بمحبة أو غيرها فعلم المعبود المقصود صح حينئذ أن يعبده ويقصده . وكذلك الإخلاص كيف يخلص من لم يعرف الإخلاص؟ فلو كان طلب علم الإخلاص لا يكون إلا بالإخلاص لزم الدور ، فإن العلم هو قبل القصد والإرادة من إخلاص وغيره ، ولا تقع الإرادة والقصد حتى يحصل العلم .
وعلى هذا فما ذكره عن نفسه هو حسن ، وهو حال النفوس المحمودة المستقيم حالها . ومن هذا قول الإمام أحمد رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - : خديجة . إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق
فهذه الأمور كان يفعلها محبة لها ، خلق على ذلك وفطر عليه ، فعلمت أن النفوس المطبوعة على محبة الأمور المحمودة وفعلها لا يوقعها الله فيما يضاد ذلك من الأمور المذمومة ، لما قال لها : . . . . الحديث ، وهو في الصحيحين . "قد خشيت [ ص: 198 ] على نفسي" . قالت : كلا والله لا يخزيك الله أبدا