[ ص: 194 ] فتمام الدين بالفطرة وتقديرها ، لا بتحويلها وتغييرها ، فإن ، والله خلق عباده حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحل الله لهم ، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانا . هكذا أخبرنا الله فيما روى عنه رسوله في الحديث الصحيح الذي رواه كل مولود يولد على الفطرة . مسلم
فهم بفطرتهم يحبون الله وحده ويحبون تناول ما يحتاجون إليه من الطيبات ، والمحبة تتبع الشهود والإحساس ، فهذا الذي في فطرهم من الحس والحركة إلى عبادة خالقهم مما يعينهم عليها من طيبات الرزق ، هو وجه الحسن الثابت بالأفعال الحسنة : مأمورها ومباحها ، فإن ذلك كله حسن ، لما فيه من هذه الملاءمة المناسبة والمحبة التي فطروا عليها ، فما كان من ذلك مشهودا في عالم الشهادة أدرك بالشهود والإحساس ، وما كان غيبا أدرك بالسمع الذي جاء به المرسلون .
والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع ، فلا بد من أن يعقل ما أمر الله به وأخبر ، كما لا بد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا ، فيعقل الشهادة والغيب ، بمعنى ضبط العلم بجريان ذلك على وجه كلي ثابت في النفس .
لكن زعم أولئك أن العقل يدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءمة باطل ، كما أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا [ ص: 195 ] ملاءمة فيه باطل ، فأولئك إنما نفوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من جنس ما عقلوه في البشر ، وأنكروا الملاءمة في حقه والمنافرة .
وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعا محضا مبنيا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة ولا منافرة ، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة ، وبغضه للمسيئين بها ، وهذا هو المعنى الذي يعبرون عنه في حقنا : الملاءمة والمنافرة ، وإنما أتوا من جهة ما فيهم من نوع تجهم .
ولهذا أنكر أولئك -مع إنكارهم لهذه الصفات- أنكروا القدر ، وهو عموم قدرته ومشيئته وخلقه ، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي انطوى عليها الأمر والنهي ، وأنكروا أيضا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة والرحمة .
فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق ، ولكن قصروا في إثبات الرحمة والحكمة والعدل ، وأولئك أثبتوا شيئا من الحكمة والعدل ، ولكن قصروا في ذلك أيضا ، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق ، وإن كان كل من الفريقين لا ينكر أمر الشرع ونهيه .
لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي ، وقالوا : هذا يخالف الحكمة المعقولة ، كما فعل إبليس وذووه . وغلاة هؤلاء دفعوا أيضا الأمر والنهي وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، كما قال المشركون . وإبليس أغلظ كفرا ، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة والجماعة . [ ص: 196 ]
وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف ، والتي تبغضها هي المنكر ، فإن المعروف هو إحساس مع محبة ، والإنكار إحساس مع بغضة . فأما ما لم يحس بحال فلا يعرف ولا ينكر ، وما لا يحب ولا يبغض بحال فلا يعرف ولا ينكر . وإذا حدث الرجل بحديث فأنكره لجهله فإنه أنكر ما لا أحبه سمعه ، وكذلك الحديث المنكر عند أهل الحديث هو ما لم يسمعوه فيحبوه لصحته وصدقه ، فإذا سمعوا بذلك أنكروه بعد إحساسه .