وأما فهو قول التخيير في الجارية ولم أجده منقولا لا عن الشافعي، ولا عن أحمد إسحاق، كما نقل عنهما التخيير في الغلام. ولكن نقل عن الحسن بن حي أنها تخير إذا كانت كاعبا.
والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي -في المشهور عنه- وأحمد وإسحاق، للحديث الوارد في ذلك، حيث ، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا. خير النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاما بين أبويه
والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف مخالف لإجماعهم. [ ص: 405 ]
والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة، لا تخيير رأي ومصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره، كالإمام والولي، فإن ثم قد يصيب ذلك الأصلح للمسلمين، فيكون مصيبا في اجتهاده حاكما بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه، فيثاب على استفراغ وسعه، ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة. كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل الإمام إذا خير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين، بنو قريظة على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل قال: فرضوا بذلك، وطمع من كان يحب استبقاءهم أن سعد بن معاذ؟! يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من الموالاة. فلما أتى سعدا سعد حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" . وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكما لله في نفس الأمر، وإن كان لا بد من إنفاذه. "ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى سيدكم
ومثل هذا ما ثبت في صحيح وغيره من حديث مسلم بريدة المشهور، قال فيه: [ ص: 406 ] "وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك".
ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا، فنزلوا على حكم حاكم، جاز إذا كان رجلا مسلما حرا عدلا، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظ للإسلام من قتل أو رق أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن، فأباه الإمام، هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لا حظ فيه للمسلمين.
والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي مصلحة، بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه.
ولكن معنى قولنا "يخير" أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعل هذا تارة وفعل هذا تارة. وقول الله في القرآن فإما منا بعد وإما فداء يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تعين هذا في حال وهذا في حال، كما في قوله تعالى: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا . فتربص أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عين علينا بعض الأوقات، فحينئذ يصيبهم الله بعذاب بأيدينا، كما في قوله: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم .
ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين: إنما [ ص: 407 ] جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم لا يقتضي أن الإمام يخير تخيير مشيئة، فيفعل أي هذه الأربعة شاء، بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال وهذا في حال.
ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنص، فإن قتلوا تعين قتلهم، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ، وروي في ذلك حديث مرفوع . وأحمد
ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام، كقول فإن رأى أن القتل هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قتل. مالك،