فصل
وأما من جهة معناه ومفهومه فيقال: نفس القراءة المتواترة أرجح وأظهر وأتم، وذلك من وجوه: أحدها: أن معنى هذه موافق لمعنى قوله في الآية الأخرى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين . فقوله: وما أريد أن يطعمون [ ص: 115 ] نفي لإرادته منهم أن يطعموه، فهو نفي لإطعامهم، وهذا موافق لقوله وهو يطعم ولا يطعم على البناء للمفعول. ولو أريد نظير تلك القراءة لقال: "فإني لا أطعم" ونحو ذلك. ولا ريب أنه سبحانه منزه عن الأكل والشرب، بل الملائكة لا تأكل ولا تشرب، فكيف بالسبوح القدوس رب الملائكة والروح؟
وهذا المعنى قد دل عليه في مواضع:
منها: اسمه "الصمد"، فإن من معناه الذي لا يأكل ولا يشرب، كما قد بين هذا في تفسير هذه السورة .
ومنها: قوله ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون . وهو سبحانه ذكر هذا بعد قوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون . [ ص: 116 ]
فهذا كلام في سياق نفي الإلهية عن المسيح وغيره، وتكفير من قال: إنه الله، أو إن الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذه وأمه إلهين من دون الله، فبين غايته وغاية أمه، فقال ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة ، وهو رد على اليهود والنصارى.
ثم قال: كانا يأكلان الطعام ، وهو يقتضي أن أكل الطعام مناف للإلهية، فمن يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلها. ولولا منافاته للإلهية لم يذكر دليلا على نفيها، فإن الدليل يستلزم المدلول عليه، فعلم أن أكل الطعام يستلزم نفي الإلهية.
وقد ذكروا في ذلك وجهين ، أشهرهما أن من يأكل ويشرب يعيش بالغذاء، ومن يقيمه الأكل والشرب كان مفتقرا إلى غيره، فلا يصلح أن يكون إلها. وهذا هو الذي ذكره أكثر المفسرين.
وقال طائفة منهم ابن قتيبة : إنه نبه على عاقبته، وهو الحدث، إذ لا بد لأكل الطعام من الحدث. قال: وقوله انظر كيف نبين لهم الآيات من ألطف ما يكون من الكناية.
وهذا الوجه صحيح في حق المسيح وأمثاله من البشر في الدنيا، فإن أكلهم الطعام يستلزم الحدث، وخروج الحدث من أبين الأشياء دلالة على انتفاء إلهية من يبول ويغوط، وذلك أعظم من كونه يلد. والدليل يجب طرده ولا يجب عكسه، فلا يلزم أن يكون كل من [ ص: 117 ] يتغوط أو من لا يأكل ويشرب إلها. كما أنه [لو] استدل على انتفاء الإلهية بأنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، كان دليلا صحيحا، ولم يلزم أن يكون كل من يتكلم ويسمع ويبصر إلها، بل انتفاء صفات الكمال يناقض الإلهية، وإن كان ثبوت جنسها لا يستلزم إلهية. كما أنه إذا قيل: إن الإله يجب أن يكون موجودا قائما بنفسه حيا عليما قديرا، فانتفاء هذه الأمور يستلزم انتفاء الإلهية، ولا يستلزم أن يكون كل موجود حي عليم قدير إلها.
وأما إن أريد بهذا الوجه الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من لزوم الحدث طرد الدليل، فيحتاجون أن يفسروا الحدث بجنس الخارج من الآكل الشارب، فإن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ، لهم رشح كرشح المسك، وهذا من جنس العرق الذي يخرج من المسام. وهو أيضا ينافي الصمدية، فإن الصمد هو الذي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، فخروج الخارج ولو كان كرشح المسك ينافي الصمدية التي هي من لوازم البارئ، فيكون لزوم الحدث للأكل دالا على نفي إلهيته من هذه الجهة أيضا. والصمدية هي المنافية للأكل والشرب وسائر ما يدخل ويخرج، كما قد بسط في تفسير السورة .