وأما فجائزة بل مستحبة، كما سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الزيارة نوعان: شرعية وبدعية، والشرعية السلام على الميت والدعاء له، بمثل أن يقال : "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فالزيارة المشروعة من جنس الصلاة على الجنازة، وكلاهما المقصود به الدعاء للميت، والله تعالى يرحم الميت بدعاء المسلمين، ويرحم الداعين له أيضا، فيثيب هذا وهذا كما يثيب المصلين على الجنازة، زيارة قبور المؤمنين . فمن صلى على جنازة إيمانا واحتسابا كان له قيراط من الأجر، ومن شيعها حتى تدفن [ ص: 126 ] كان له قيراطان
والله تعالى يقبل شفاعة المؤمنين ودعاءهم للميت، كما جاء في الحديث الصحيح أنه إذا شفع فيه مئة من المؤمنين شفعهم الله فيه، وفي حديث آخر في الصحيح : وفي حديث آخر : إذا شفع فيه أربعون، ولهذا كانوا يستحبون أن لا تنقص صفوف الجنازة عن ثلاثة. إذا كانوا ثلاثة صفوف.
والمؤمنون مأمورون بدعاء بعضهم لبعض، حتى يدعو الفاضل للمفضول وبالعكس، قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : وقال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة". . "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكا، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك: ولك بمثل"
وأما الزيارة البدعية فمثل وأمثال ذلك مما هو من [ ص: 127 ] جنس فعل المشركين والنصارى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه التمسح بالقبر أو تقبيله أو قصده للصلاة عنده والدعاء وطلب الحوائج من الميت، في الموطأ : مالك "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وقد ذكر غير واحد من السلف أن أصل عبادة الأصنام كان ذلك، فقالوا في قوله: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا : إن هذه أسماء قوم كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، وهذه الأصنام صارت إلى العرب، حتى بعث الله رسوله بأن يعبد الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك من عبادة الأوثان وغير ذلك، وبين أن أصل الدين أن يعبد الله لا يشرك به شيئا.
وفي الصحيح "يا لمعاذ بن جبل: أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن لا يعذبهم". معاذ! أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
وفي الصحيحين عنه أنه قال: [ ص: 128 ] "الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
وفي عنه أنه قال: الترمذي "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله".
وفي الموطأ : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
وفي الصحيحين عنه أنه قال: "من قال في يوم مئة مرة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مئة حسنة، وحط عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه. ومن قال في يوم: "سبحان الله وبحمده" مئة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر".
وأما النذر لها فينبغي أن يعلم أن مكروه منهي عنه بلا نزاع أعلمه بين الأئمة، لما في الصحيحين أصل النذر . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به [من] البخيل"
وفي الصحيحين أيضا عنه أنه قال: . "إن النذر يرد ابن آدم إلى القدر، فيعطي على النذر ما لا يعطي على غيره"
فبين - صلى الله عليه وسلم - أن النذر لا يجلب خيرا ولا يدفع شرا، ولكن يقع مع [ ص: 129 ] النذر ما كان واقعا بدون النذر، فيبقى النذر عديم الفائدة، لكنه يستخرج من البخيل، فإنه يخرج بالنذر ما لا يخرجه بدونه، ونهى عن النذر لأن فيه التزام شيء لم يكن لازما، وقد لا يفعله فيبقى متلوما، كما قال تعالى : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون .