والمقصود هنا أن لفظ «الهجرة » يتناول ، وقد قال أيضا : هجر ما نهى الله عنه » . «المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ، وهو ما يحصل للمجاهد من الإيلام ، كالظمأ والمخمصة والنصب ، وكاحتمال أذى العدو بالقول والفعل . قال تعالى : ومجاهدة العدو الظاهر والباطن لا بد فيه من احتمال المكروه لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [آل عمران :186] . بل لا بد فيه من احتمال المكروه وبذل المحبوب : النفس والمال والأهل ، قال تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره [التوبة :24] . والسيئات المنهي عنها تشتهيها النفس وتحبها ، فهجرها هجر محبوب النفس .
والمقصود أنه لا بد أن يترك المؤمن ما تحبه نفسه لله تعالى ، ويحتمل ما تكرهه نفسه لله ، فبهجر ما تحبه نفسه لله مما نهي عنه يكون من المهاجرين ، وباحتمال ما تكرهه نفسه لله مما أمر باحتماله يكون [ ص: 226 ] مجاهدا لنفسه ولعدوه . ولا بد أن يقع العبد في الذنوب التي تفتنه ، بل قد يقع فيما يفتنه عن الدين ، قال تعالى : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم [النحل :110] . وقال تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران :92] . وقال تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ، ألا إن نصر الله قريب [البقرة :214] . وقال تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [آل عمران :142] . وقال : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [محمد :31] .
وأمرهم بهذا هو من أعظم نعمه عليهم ، وإذا يسرهم لهذا فقد أتم النعمة عليهم ، فإن كل ما يحبه الإنسان يفارقه بالموت ، كما في الحديث : » . فهو يفارقه بغير اختياره ، فإذا فارقه باختياره لله كان أنفع له في الدنيا والآخرة . والمكاره التي [ ص: 227 ] تحصل لأهل الإيمان والجهاد يحصل مثلها وأعظم منها لغيرهم ، فإنه لا تتم مصلحة أحد إن لم ينب عن نفسه وأرضه ، فلا بد لكل إما أن يقاتل وإما أن يذل لمن يقاتل ، فمن لم يقاتل في سبيل الرحمن قاتل في سبيل الشيطان ، أو كان متهورا مع هؤلاء أو هؤلاء ، ومعلوم أن كونه عزيزا خير من كونه ذليلا ، ولا بد من موت الخلق كلهم ، وخير الموت القتل في سبيل الله . فلهذا قال : «أحبب من شئت فإنك مفارقه قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا [التوبة :52] ، كسنته فيمن كذب الرسل ، فإنه ينتقم منهم بعذاب من عنده ، أو يسلط عليهم عباده المؤمنين ، فهو معذبهم في الدنيا والآخرة كما يذكر الله ، وهنا إنما ذكر عذاب الدنيا ، فكان ما أمروا به من هجر المحبوبات المنهي عنها لله ، ومن الجهاد واحتمال المكاره فيها ، وبذل المحبوب لله ، هو غاية السعادة في الدنيا والآخرة .
ولهذا كان الجهاد سنام العمل ، وفي الأثر : «من ترك أن ينفق دراهم في سبيل الله أنفق مثلها في طاعة الشيطان ، ومن ترك أن يمشي مع أخيه خطوات لله مشى مثلها في طاعة الشيطان ، ومن ترك الحج لحاجة حج الناس ورجعوا وحاجته لم تقض » . وذلك أن الله تعالى خلق الخلق [ ص: 228 ] لعبادته ، فمن لم يستعمل نفسه وماله في عبادة الله استعملها بغير اختياره في طاعة الشيطان ، إذ كان لا بد لها من عمل ، ولا بد للمال من مصرف ، ولو حفظه مات عنه ، فمال البخيل لحادث أو لوارث ، لا ينتفع به صاحبه ، كما قال تعالى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [التوبة :55] ، فهم يعذبون بها ، فتزهق أنفسهم وهم كافرون ، فإن النفس المعلقة بها لا تفارق باختيارها ، بل تزهق وهي كافرة ، لم يؤمنوا ويعملوا صالحا .