وقد قال في : صفة المهاجرين للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر :8] ، فوصف المهاجرين بأنهم ينصرون الله ورسوله . لكن الأنصار كانوا في ديارهم وأموالهم ، وهم مجتمعون متناصرون ، فكانوا أكمل في وصف النصر ، إذ كانوا أقدر عليه . والمهاجرون ما قدروا على النصر إلا بهم . ويوم بدر كان ثلاثة أرباع البدريين من [ ص: 223 ] الأنصار ، ويوم أحد أكثر القتلى كانوا من الأنصار ، والقراء السبعون الذين قنت لأجلهم أكثرهم من الأنصار ، ويوم السقيفة ، ويوم مسيلمة أكثر القتلى من الأنصار ، وكانوا أكمل بهذا الوصف فخصوا به . وإلا فالنصرة هي الجهاد ، والمهاجرون مجاهدون ، ومقصود الهجرة هجر السيئات ، والأنصار هجروا السيئات . فلهذا كان قوله : الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم [التوبة :20] يتناول الطائفتين ، ويتناول كل من اتصف بذلك إلى يوم القيامة .
وهذا كنظائره إذا ذكر الاسم مفردا يتناول النوعين ، وإذا ذكر مقرونا عطف أحدهما على الآخر ، كلفظ الإيمان والعمل ، والإيمان والإسلام ، ولفظ البر والتقوى ، والمنكر والفحشاء ، وأمثال ذلك كما بسط في مواضع . فلما ذكر لفظ الأنصار مفردا في قوله : كونوا أنصار الله يتناول الطائفتين ، ولما ذكر الهجرة والجهاد مقرونا تناول الطائفتين ، وإذا جمع بينهما في مثل قوله : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان [التوبة :100] ميز بينهما . وكذلك في قوله : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض [الأنفال :72] . ألا ترى أن الذين آووا ونصروا هم أيضا آمنوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم [ ص: 224 ] وأنفسهم ، لكن ذكروا بأخص أوصافهم ، وهما الإيواء والنصر ، فإن هذا امتازوا به . ثم قال : والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم [الأنفال :74] ، ثم قال : والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم [الأنفال :75] . قالت طائفة من السلف : هذه تتناول المؤمنين إلى يوم القيامة ، كما في سورة الحشر : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [الحشر :10] .
وهؤلاء التابعون وصفهم بالإيمان والهجرة والجهاد ، لأن الناس يكثرون والأنصار يقلون ، وما بقي بالنسبة إلى أولئك دار يؤوون إليها الرسول وأصحابه . لكن هذا المعنى ثابت لكل من هوجر إليه من المؤمنين فآووا من هاجر إليهم ونصروه ، كما أنه قد قال : » ، أي من أرض «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية مكة وأرض العرب ، لأنها صارت دار إسلام . وقد قال : » أي من دار الكفر ، وكذلك النصرة والجهاد لا يزال مأمورا به إلى يوم [ ص: 225 ] القيامة . وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع . «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو