فمن ادعى حسنا أو قبحا عقليا أو شرعيا بلا فرح ولذة ولا غم وألم، فقد قال ما لا يعرف، ولم يتصور ما يقول، وهو مطالب بتحقيق ما يقوله، فإن كثيرا من نزاع العقلاء يكون لكونهم لم يتصوروا تصورا تاما [ ص: 380 ] ما تنازعوا فيه، ولو تصوروه تصورا تاما لارتفع النزاع.
وكذلك قول القائل: أن يكون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، مما يعرف بالعقل، هو يعود إلى الملاءمة، فإن الفعل الذي يكمل به الفاعل، هو الذي يلائمه ويحصل به كمال الفرح والسرور والنعيم.
وأما الفصول المذكورة:
فالأول: أن الأفعال هل هي مشتملة على صفات لأجلها كانت حسنة وسيئة أم لا؟
فأكثر الناس على أنها اشتملت على صفات لأجلها كانت حسنة وسيئة، وإلا كان أمر النزاع بأحد المتماثلين ترجيحا بلا مرجح.
ونفاة الحسن والقبح العقليين على قولين:
منهم من يقول: لم يختص شيء من الأفعال بما لأجله كان مأمورا به ومنهيا عنه، بل الرب يرجح مثلا عن مثل بمجرد المشيئة.
وهؤلاء يقولون: علل الشرع أمارات محضة، كما يقول ذلك
الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي ومن قال من هؤلاء بالمناسبة قال: لأنا اعتبرنا الشرع فوجدناه يثبت الحكم عند الوصف المناسب لا به. [ ص: 381 ] وأحمد،
ومنهم من يقول: بل الشارع لم يخص فعلا على فعل، فالأمر والنهي لا لاختصاص ذلك الفعل بما يقتضي ذلك، لكن كون ذلك الفعل حسنا مأمورا به وقبيحا منهيا عنه لا يثبت إلا بالشرع، فالشارع جعل ذلك الوصف المناسب موجبا لكون الفعل حسنا وقبيحا، لا أنه كان حسنا وسيئا.
وهذا يقوله من نفى الحسن والقبح العقليين، ويقول: إن الشارع جعل الصفات عللا، كما يقوله وموافقوه، الغزالي كأبي محمد بن المني وأبي محمد المقدسي وغيرهما.
وأما الأكثرون فيقولون: بل تلك الصفات توجب كون الفعل حسنا وسيئا، فتوجب كون العدل حسنا وكون الظلم سيئا، وأنه سبب لمدح صاحبه وذمه، ولكن هل يستحق صاحبه العقاب قبل إرسال الرسل؟ على قولين:
فمنهم من يقول: إن صاحبه يستحق العقاب في الدنيا والآخرة بدون الإرسال، كما يقول ذلك كثير من المعتزلة والحنفية وأبو الخطاب وغيره. [ ص: 382 ]
ومنهم من يقول: بل العذاب لا يستحق إلا بعد إرسال الرسل، كما دل عليه الكتاب والسنة، وإن كان الفعل في نفسه سيئا قبيحا، وهو سبب لذم صاحبه وعقابه، لكن شرط حصول العقاب هو إقامة الحجة بالرسل كما دلت عليه النصوص. وهذا أعدل الأقوال وعليه تدل نصوص الكتاب والسنة.
وقد ذكروا عن القائلين بالحسن والقبح العقلي، هل هذا الحكم ثابت لذات الفعل، أو لصفة قائمة به، أو في الحسن لذاته وفي القبح لصفة قامت به؟ ثلاثة أقوال.
ولم يقل أحد: إن الحسن والقبح هو وصف لازم لذات الفعل، كما تظنه طائفة نقلت قولهم، بل يقولون: تختلف صفات الفعل باختلاف أحواله وأنواعه، فكونه حسنا من جنس كونه محبوبا، وكونه قبيحا من جنس كونه بغيضا، ويقولون: قد يقوم به المقتضي لحسنه أو قبحه، ولكن يختلف عنه مقتضاه لفوات شرط أو وجود مانع.
وهو مبني على مسألة تخصيص العلة، فمن جعل العلة الأمر المستلزم للحكم لم يخصصها، ومن جعلها المقتضي خصصها. وهو نزاع لفظي. [ ص: 383 ]
وليس لنفاة الحسن والقبح العقليين دليل أصلا، بل جميع أدلتهم باطلة، وليس لمثبتيه دليل يدل على حسن وقبح بغير اعتبار الملاءمة للفاعل والمنافرة له، بل كل ما يذكرونه على إثبات حسن وقبح بدون ذلك فهو باطل.
كما أن أولئك ليس لهم دليل على أن الفاعل المختار يفعل بلا داع، وليس لهؤلاء دليل على أنه يفعل بداع لا يعود إلا إلى غيره; ولهذا لما عاد معنى الحسن والقبح إلى هذا أثبتت طائفة الحسن والقبح العقلي في أفعال العباد دون أفعال الله. وهو اختيار الرازي في آخر عمره.
وهو مبني على أصل، وهو مشيئة الله، وهل هي نفس محبته ورضاه وسخطه وبغضه، أو بينهما فرق؟
فذهب المعتزلة، والجهمية والقدرية الجبرية، والقدرية النافية إلى أن جميع ذلك بمعنى واحد، ثم قالت النفاة: قد ثبت بالنصوص المتواترة إجماع الأمة: أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، فلا يريده ولا يشاؤه، فيكون في ملكه ما لا يشاء.
وقالت المجبرة: بل ثبت بالنص والإجماع أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل كائن فهو بمشيئته. [لا] يثبت [ ص: 384 ] لله صفة قائمة به لا إرادة ولا محبة، بل محبة عبده ثوابه، وبغضه عقابه، فلم يحتج أن يقول: إنه يحب كل شيء. وجهم بن صفوان