قال الله تعالى: والحسد يكون على المال والجاه جميعا، كما قد يكون على الدين والعلم، أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ، وقال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . وإذا أحب أن يحصل له من الخير الذي حباه الله تعالى مثلما حصل لغيره من غير زوال تلك النعمة عنه، فهذا غبطة، ويسمى حسدا لكنه حسن. كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [ ص: 53 ] قال: فإن هذا وهذا مما يحبها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسيجازى صاحبهما في الآخرة، فإذا أحب الرجل أن يكون له مثل ما لغيره من ذلك فهذا حسن، وهو من المنافسة التي رغب فيها بقوله تعالى وتبارك: "لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق". وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . وأما وإن أحب أن يكون له مثلها من المال والرئاسة من غير زوال لذلك عنه فهذا من جنس حب المال والرئاسة ابتداء، فهو باطل وعبث ولعب، إلا ما ينتفع به في الآخرة، والحرص عليه يفسد الدين كما تقدم. وقال إذا تمنى زوال النعمة عنه فهذا مذموم معيب، رضي الله عنه : يا بقايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل شداد بن أوس ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة. وقال لأبي داود السجستاني: رحمه الله: رأيناهم يزهدون في الطعام والشراب واللباس، فإذا نوزع أحدهم الرئاسة ناطح نطاح الكباش. سفيان الثوري
فطلاب الرئاسة عند الذين يريدون ما أحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالذم والنقص والعيب، من طلاب المال عند طلاب الرئاسة، حيث أرادوا ما لا يدوم نفسه ولا يبقى، بل يزول ويفنى، فطلبوا الباطل الذي يفنى، وتركوا الحق الذي يبقى. وقد قال بعضهم: لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، فكيف والدنيا خزف يفنى، والآخرة ذهب يبقى!
ولهذا قال السحرة لما آمنوا وتبين لهم الحق، وقال لهم فرعون [ ص: 54 ] فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .
والمقصود هنا ذكر معنى الزوال، وقد تقدم أن لفظ "زال" يستعمل لازما تاما، ويستعمل ناقصا من أخوات كان، وهو كثير، كقوله تعالى: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ، وقوله تعالى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ، وقوله تعالى: ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم . ويقال: "لم يزل كذلك"، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وكان الله عزيزا حكيما ، سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان الله غفورا رحيما تسمى بذلك، وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك. رواه في صحيحه عنه. وكذلك قال البخاري رضي الله عنه: لم يزل الله عز وجل عالما متكلما غفورا. الإمام أحمد بن حنبل
وقال رضي الله عنه أيضا: لم يزل متكلما إذا شاء. ذكره في رواية عبد الله فيما كتبه في "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأؤلته على غير تأويله" .
[ ص: 55 ] وهذا يقال فيه: ما زال، ولم يزل; والأول يقال فيه: زال يزول، ذاك بالواو، وهذا بالألف، لأن معنى الواو أكمل، وذاك فعل تام يراد به لم يزل المذكور، وهنا يراد به: لم يزل أو لا يزال على هذه الصفة وهذه الحال. فالمراد هناك دوام نفسه وبقاؤها، والمراد هنا دوام صفته المذكورة وبقاؤها. ودوام نفسه وبقاؤها من غير زوال ونقص يستلزم دوام صفات الكمال وبقاءها. وأما إذا قيل: لم يزل كذلك، فقد يكون المذكور صفة نقص، كقوله تعالى: ولا يزالون مختلفين ، وقد يكون صفة كمال، وإذا كان صفة كمال فهو داخل في الأول.
فلهذا كان من غير حدوث نقص أو تغير بفساد واستحالة ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات، فإنه سبحانه وتعالى "القيوم". ولهذا كان من تمام كونه قيوما لا يزول أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، فإن السنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما من النقص بزوال كمال الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت، اسمه "القيوم" يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كماله، ويتضمن أنه لم يزل ولا يزال دائما باقيا أزليا أبديا موصوفا بصفات الكمال، . وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجنة: أينامون؟ فقال: "لا، النوم أخو الموت"
[ ص: 56 ] والنوم جعل للناس في الدنيا سباتا، كما قال تعالى . جعل الليل لباسا والنوم سباتا، ليسكن الإنسان فيه ويستريح بدنه من الحركات التي لو دامت عليه لأهلكته ، ولهذا يغتذي الإنسان بالنوم لاحتياجه إليه، ويقوم من نومه كأنه خلق جديدا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ من نومه يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور" .