وإن قال: لولا ذاك الألم لم تحصل هذه اللذة.
فإن أراد أن الموجود في الدنيا كذلك، فهذا صحيح، لكن كون هذه اللذة في الدنيا إنما توجد بعد ألم، لا يمنع وجودها في دار الحيوان التي لا ألم فيها بلا ألم، فإن الألم سبب هذه اللذة في الدنيا، وكمال البدن والنسل هو العلة الغائية لهذه اللذة، ولكن كونها في الدنيا لا توجد إلا بسبب قبلها هو الألم، وحكمة بعدها هي النسل وثبات الجسد، لا يمنع أن يوجد في الآخرة بدون هذا السبب ودون هذه الحكمة، كما أن كل موجودات الدار الآخرة ومن يوجد فيها بدون ما اقترن بها في الدنيا من أسبابها وغاياتها، وعدم وجود الشيء شيء، والعلم بامتناعه شيء آخر، ولا ريب أن الموعود به في الجنة ليست حقائقه وغاياته وأسبابه مماثلا لما هو في الدنيا، كما قال "ليس في الدنيا شيء مما في الآخرة إلا الأسماء" . وإنما أخبرنا منها [ ص: 186 ] بما له في الدنيا ما يشبهه من بعض الوجوه، ثم قيل: ابن عباس: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
ولهذا كما نفى عن الأشربة واللباس وغير ذلك آفاته، إذ هي دار نعيم لا آفة فيها بحال، فالتحاب بين الزوجين ونحوهما في الدنيا وإن أعقب لذة مطلوبة لنفسها، فليس أحدهما محبا للآخر لذاته، بل لقضاء الوطر منه، كما تقدم، وهو نوع من المعاوضة كالتعاوض بالأموال، ولهذا كان عقد النكاح يوجب المعاوضة من الطرفين، كما قال تعالى: أخبر الله بوجود هذا النعيم واللذات في الجنة مع نفيه لما يقترن به في الدنيا من سبب وغاية، ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة