[ ص: 174 ] فقد تبين أن من عبد المخلوقات عبادة العبد لربه الذي يسأله ويرغب إليه في تحصيل مآربه، أو عبادته لإلهه الذي هو مع ذلك يعبده لذاته ويحبه لذاته، كان ذلك موجبا لفساده. والمعبود إذا رضي أيضا بذلك لزم أيضا فساده، بمنزلة من جعل المعدوم مقصودا لذاته، فإن الحركة الإرادية تطلب مرادا يكون به صلاح المريد ونفعه، فإذا لم يكن فيه لزم الفساد، وإن وجد في ذلك لذة فإنه يستعقبه ألما وضررا، بمنزلة من أكل ما يظنه عسلا وكان فيه حلاوة، وكان سما، فإنه يهلكه ويقتله.
فقد وهذا قصد بقوله: تبين بالقياس العقلي امتناع أن يكون معبود إلا الله، كما امتنع أن يكون رب إلا الله، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا قصد نفي إله سواه. ولهذا قيل: لفسدتا وهذا يتضمن نفي رب غيره.
والمتكلمون قصروا في معنى الآية من وجهين:
أحدهما: من جهة ظنهم أنه إنما معناها نفي تعدد الأرباب فقط، كما أقاموا هم الدليل على ذلك.
والثاني: ظنهم أن دليل ذلك هو ما ذكروه من التمانع، وليس كذلك، فإن التمانع يوجب عدم الفعل، والتقدير أن الفعل قد وجد، ثم الاشتراك في الفعل يوجب العجز فيهما، والقرآن إنما أخبر بفسادهما، لم يخبر بعدمهما، والفساد يكون عن الإرادات الفاسدة، [ ص: 175 ] وهو ضد الصلاح الذي يكون عن الإرادات الصالحة، والله قد أمر بالصلاح ونهى عن الفساد في غير آية.
قال الله تعالى: وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ، وقالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وقال تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، وقال: إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ، وقال: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ،وقال: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، وقال ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ، وقال: ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين . [ ص: 176 ]
وذلك هو الفساد الناشئ من أن يكون فيهما آلهة إلا الله، فإنه كما تكون حركات المتحركين صادرة عن الإرادة والمحبة صارت بالقصد الأول لعبادة تلك الأمور التي لا تصلح لأن تكون هي المقصودة، بمنزلة من لا يتقوت إلا بالزجاج، ولا يشرب إلا الماء الزعاق، أو لا يدفع البرد في الأرض الباردة إلا بالثياب الرقاق، أو لا يدفع عدوه عنه من القتال إلا بالأيدي، ونحو ذلك من الأفعال التي يقصد بها جلب منفعة يحتاج إليها، ودفع مضرة لا تكون محصلة لذلك، فهذا يوجب الفساد. وقصد غير الله بالعبادة يتضمن هذا كله وأضعافه، ولهذا قيل: فسبب الفساد هو معصية الله، كما أن سبب الصلاح هو طاعة الله، ورأس الفساد والمعصية هو أن تعبد غير الله، إن الشرك لظلم عظيم .