وأكثر ما ذكر في القرآن من ذم اتباع [ ص: 169 ] الأهواء يتعلق بالقسم الأول، وإن كان أيضا يتناول القسم الثاني، كما قال الله تعالى: والأهواء في الدين والآراء والاعتقادات والأذواق والعبادات أعظم من الأهواء في الدنيا. يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله .
وإذا تبين ذلك علم أن الإرادة لا بد أن يكون لها مقصود لذاته، خارج عن اللذة المنقضية، إذ اللذة المنقضية لا يجوز أن تكون مقصودة لذاتها، كما لا يجوز أن يكون القصد الحادث حادثا بذاته، كما تقدم من أن ما يعقبه عدم لا يجوز أن يحدث بذاته، ومن المعلوم أن كل مقصود فإما أن يقصد لنفسه أو لغيره، وعلى التقديرين يلزم وجود الموجود بنفسه، وذلك أنه إذا قصد المقصود لغيره، فذلك الغير إما أن يكون مقصودا لنفسه، فثبت المقصود لنفسه، وإما أن يكون مقصودا لغيره، فإن كان الغير هو الأول لزم الدور، وهو أن يكون هذا مقصودا لأجل هذا، وهذا مقصودا لأجل هذا، وقد تقدم بيان استحالة أن يكون كل شيء من الشيئين علة للآخر علة فاعلية أو غائية. وإن كان غير الأول لزم أن يكون لذلك المقصود مقصود، ولذلك المقصود مقصود، ويلزم تسلسل العلل الغائية. ومن المعلوم أن المقصود يتقدم في العلم والقصد، فيلزم أن يجتمع في علم الإنسان وقصده مقصود لا يتناهى في آن واحد.
وأيضا فالمقصود يتعقب الفعل الذي هو السبب التام، ثم المقصود يتعقب الآخر، كما أن السبب التام يتعقبه المسبب، فيلزم [ ص: 170 ] اجتماع معلولات لا تتناهى في آن واحد، وهذا محال كاستحالة اجتماع علل لا تتناهى.
ثم إن ثبوت هذا فطري، كثبوت الواجب الوجود بنفسه. وإذا كان وجود المقصود لنفسه- وهو المعبود- ضروريا في وجود الحركات كلها، إذ جميع الحركات إنما تصدر عن إرادة، فإنها ثلاثة: قسري، وطبعي، وإرادي. أما القسري فتابع للقاسر، وأما الطبعي فإنما يتحرك إذا خرج عن مركزه، فهو فرع على غيره. وإذا كان كل من الحركتين الطبعية والقسرية تابعا للغير وفرعا عليه ومستلزمة له، فلا بد من الحركة الإرادية، فتكون هي الأصل.
وإذا ثبت أن جميع الحركات صادرة عن الإرادة، وثبت أنه لا بد في الإرادة من مقصود معبود، وتبين أن ما يتعقبه عدم من اللذات الموجودات لا يجوز أن يكون مقصودا لذاته، ثبت أن المقصود المعبود لذاته يجب أن يكون باقيا أبديا، كما ثبت أن الموجود بنفسه يجب أن يكون قديما أزليا. كما قال الخليل عليه السلام: لا أحب الآفلين .
ثم إنه كما امتنع أن يكون المخلوق ربا خالقا، يمتنع أن يكون إلها معبودا من جهة كونه لا يستقل بجلب المنافع ودفع المضار، ومن جهة أنه في نفسه يمتنع أن يكون هو الغاية المقصودة لغيره بالأفعال، وذلك لأنه هو في نفسه ليس الغاية المقصودة لفاعله، ولا هو أيضا الغاية المقصودة لفعله، فإنه يمتنع أن تكون ذاته هي الغاية المقصودة له. [ ص: 171 ]
أما أولا فلأن ذاته ليست فعله ولا نتيجة فعله، فيمتنع أن تكون هي الغاية المقصودة بفعله.
وأما ثانيا فلأنه يمتنع أن يكون الشيء الواحد علة معلولا، فاعلا مفعولا، وقاصدا ومقصودا كما تقدم بيان ذلك.
وإذا امتنع أن تكون ذاته هي العلة الغائية لذاته ولفاعله، امتنع أن تكون هي العلة الغائية لغيره بطريق الأولى، وهو وإن كان قد يفعل للذة التي تحصل فتكون لذاته غاية له، كما يكون قصده سببا لفعله، فيمتنع أن تكون نفس لذته غاية مقصودة لغيره. كما يمتنع أن يكون مجرد قصده قصدا لغيره، إذ الشهوة واللذة القائمة بالشيء، وهي القصد والغاية، لا تكون بعينها شهوة لغيره ولذة له وقصدا له وغاية، ولكن يكون له نظيرها، وذلك لا يوجب أن يكون هو المقصود.
ويمكن أيضا أن يكون في ذاته ما يكون مقصودا بقصد لأمر آخر، كما هو الموجود في كل المحبوبات من المخلوقات، فإنها تحب لأمر آخر لا يصلح أن تكون هي منتهى المراد المقصود، ومن أحب مخلوقا جعله غاية المطلوب المراد، فهذا هو الفساد الذي بينته.
كما أن من جعله هو الرب المحدث، فهذا فساد أيضا، ولكن كما أنه يكون محدثا بفاعل غيره خلقه، كذلك يكون مقصودا لمقصود آخر هو المعبود، كما يحب الأنبياء أو المؤمنون لله، وكما يطاعون لطاعة الله.