وبعضهم قد يقول: إذا طلبت رؤيته كنت في حظك، بل لا يكون لك مطلوب. وينشد قول بعضهم :
أحبك حبين: حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الهوى
فكشفك للحجب حتى أراكا وأما الذي أنت أهل له
فحبي خصصت به عن سواكا [ ص: 14 ] فما الفضل في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الفضل في ذا وذاكا
وأما الغلط فتوهم المتوهم أن إرادة وجه الله والنظر إليه ليس فيها حظ للعبد ولا غرض، وأن طالبها قد ترك مقاصده ومطالبه، وأنه عامل لغيره لا لنفسه، حتى قد يخيل أن عمله لله بمنزلة كسب العبد لسيده وخدمة الجند لملكهم. وهذا غلط، بل ففي الحديث الصحيح عن أهل الجنة قال: إرادة وجه الله أعلى حظوظ العبد، وأكبر مطالبه وأعظم مقاصده، والنظر إلى وجهه أعظم لذاته، رواه "فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة"، عن مسلم [ ص: 15 ] صهيب.
وإنما العبد له حظان: حظ من المخلوق ، وحظ من الخالق، وله لذتان: لذة تتعلق بالمخلوق، ولذة تتعلق بالخالق. فترك أدنى الحظين واللذتين لينال أعلاهما، وما عمل إلا لنفسه ولا حطب إلا في حبله، قال تعالى: وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كما تقدم. "أسألك لذة النظر"
وقال الله تعالى: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ، وقال: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ، وقال: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وقال: ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم . والله سبحانه أمره بما يحتاج إليه في سعادته، وأحب له أعلى السعادات وأعظم اللذات، وإن كان لمحبة الرب عبده ولعمله الصالح تعلق بالله ليس هذا موضعه، فالعبد إذا لم يتصرف إلا بأمر الله ورسوله فهو بمنزلة من لا يتصرف إلا بأمر مالكه العالم بحاله، والناصح له، لا بأمر المالك الذي ينتفع به في حياته، قال الله تعالى : ، وقد كتبت فيما تقدم العمل لله والعمل للمالك، وبهذا تزول جهالات كثيرة من بعض العابدين المحبين. "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن [ ص: 16 ] تبلغوا نفعي فتنفعوني"
قال تعالى: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ، فأخبر أنه هو الذي من بهدايتهم للإيمان، إلا أنهم يمنون على رسوله إسلامهم، فتدبر هذا، فإن فيه معاني لطيفة، منها: أنه إنما من بهدايتهم للإيمان التي هي دعوتهم إليه بالرسالة، وإنعامه عليهم بالاهتداء، لم يكن مجرد الدعوة إليه ولا مجرد الإسلام الظاهر، ولأنه يشركهم في الأول الكافر، وفي الثاني المنافق، ولهذا قال: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا.
ومنها: أن منهم على رسوله الإسلام الظاهر الذي قد ينتفع به الرسول في نصره وموافقته وغير ذلك، فكان ذلك تنبيها على إنكاره منهم على الله الغني الحميد، الذي لا يبلغون ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، وهو الأول والآخر، وهو بكل شيء عليم، والعبد إنما عمل في مطلوبه مراده الذي هو معبوده وإلهه، وإذا أحبه ربه، [ ص: 17 ] وأحب عبادته ودينه ورضي ذلك، فما للعبد من ذلك فهو نعمة من الله عليه، وما للرب في ذلك فهو منه وإليه، وهو الغني عن خلقه. فالله هو الذي أنعم على عبده المؤمن بأمره وتعبيده له، وهو الذي من عليه بهدايته وإرشاده، فله الحمد في كونه هو المعبود، وفي كونه هو المستعان،