[ ص: 8 ] ثم الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود.
أما الأول: فكل حي يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك العمل مطلوب ما، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: صاحب الهم الذي يكون له إرادة وقصد. وقد بينت فيما تقدم أن طلب المخلوق لا بد أن يتعلق بغيره، فكما أنه لا يكون فاعل نفسه، لا يكون مطلوب نفسه، وبينت أن المخلوق كما لا يكون فاعلا، لا يكون مطلوبا، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله، و "إن أصدق الأسماء الحارث وهمام" لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
والغرض هنا أن المخلوق لا بد له في كل عمل من مطلوب ومراد، وحظ ونصيب، لا يمكن غير ذلك، فاعتقاد وجود اختياري بلا مراد محال، سواء كان من الملائكة أو النبيين أو الصديقين أو الشهداء أو الصالحين أو الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين، فما نسمعه من الكلمات المأثورة عن بعض المشايخ مما ينافي هذا فأحد الأمرين [ ص: 9 ] فيه لازم: إما أنه لفظ مجمل لم يفهم مراد صاحبه، أو صاحبه غالط فيما أمر به أو أخبر به.
مثال ذلك قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل.
فهذا الكلام إذا أريد به في جانب الله أن يكون مفوضا إليه أموره فيما يقدر عليه مما ليس فيه ترك واجب ولا مستحب، فهذا معنى صحيح، لكن دلالة اللفظ عليه بعيدة، وظاهره يعطي أنه لا يكون له من نفسه حركة قط حتى تحرك تحريكا جبريا، فهذا باطل ممتنع. ثم إن الممكن منه محرم في الدين على الإطلاق، وذلك أن الميت لا تقوم به حركة ببدنه ولا إرادة تحرك بدنه، والحي ليس كذلك، فإن جسده يتحرك حركة اختيارية ، وهذا أمر لا بد منه، فلا بد من الحركة الاختيارية، ويمتنع أن يحرك حركة ينتفي حكم إرادته فيها، فالأمر فيه عكس الميت من وجهين: الوجود والعدم، فإن الميت لا يتحرك بدنه في العادة باختياره، وهو يحرك دائما بغير اختياره، وقول المطلق احتراز على المقيد ونحوه ممن غسل، فذاك لا فعل له بحال، فهذا بطلانه وامتناعه.
وأما مخالفته للدين والشريعة، فإن الله لم يأمرنا بعدم الإرادة والحركة، ولا مراده في دينه منا أن نكون مسلوبي الاختيار والحركة [ ص: 10 ] والعمل، وإنما المراد منا أن فعلينا أن نختار ونعمل ما أوجب علينا عمله واختياره، وهو يحب لنا ويرضى أن نختار ونعمل ما يستحب لنا في دينه، ويعاقبنا على عدم الإرادة والعمل المستحب. نكون مطيعين له ولرسوله، وأن تكون حركتنا واختيارنا تبعا لأمره الذي بعث به رسوله،
وهنا قد تغلط طائفة من المتصوفة فيقولون: ما المراد؟ قد يستعملون ذلك فيما فيه ترك مستحبات، وقد يتعدون إلى ما فيه ترك واجبات، فيقال: ليس المراد منا الانقياد لكل حكم قاهر، ولا الاستسلام لكل ذي سلطان قادر، وإنما المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له، وطاعة أمره ونهيه: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم . فإن ونحو ذلك هو المطلوب منا والمراد بنا في دين الله تعالى وكتابه، فأما الحوادث التي تكون بغير أفعالنا فالأقسام فيها ثلاثة: الدين: الإيمان والبر والتقوى وطاعة الله ورسوله والإحسان والعمل الصالح
تارة نؤمر بدفعها بالباطن أو الظاهر، كما يؤمر بجهاد الأعداء عن الدين. [ ص: 11 ]
وتارة والرضى بهذه أعظم من الصبر. وهل هو واجب أو مستحب، على قولين أصحهما أنه مستحب. نؤمر بالصبر عليها، وهو ما قضي من المصائب ولا فائدة في الجزع عليه، كالمصائب في الأنفس والأموال والأعراض،
وتارة نخير بين الأمرين بين دفعها وقبولها، وإن كان قد يترجح أحدهما، كدفع الصائل عن المال، وكالتداوي أحيانا ونحو ذلك، وقد فصلنا مسائل هذا الباب في غير هذا الموضع.
وكذلك الأمور التي ليست حاصلة عندنا، منها ما نؤمر بطلبه واستعانة الله عليه، كأداء الواجبات، ومنها ما ننهى عن طلبه كالظلم، ومنها ما نخير بين الأمرين، فكيف يقال مع هذا: إن العبد ينبغي له أن يكون كالميت بين يدي الغاسل؟ هذا مع الله.
وأما كونه كذلك مع الشيخ ففيه تنزيل الشيخ منزلة الرسول، وهذا على إطلاقه باطل، لكن فيه تفصيل ليس هذا موضعه.
ومما يغلط فيه ما يذكر عن الشيخ أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال في بعض مناجاته لما قيل له: ماذا تريد؟ فقال: أريد ألا أريد، لأني أنا المراد وأنت المريد. ويتحذلق بعضهم على أبي يزيد ، فيقول: فقد أراد بقوله "أريد". وهذا الاعتراض خطأ لوجهين:
أحدهما: أنه من قيل له: ماذا تريد لم يطلب منه عدم الإرادة، وإنما [ ص: 12 ] طلب منه تعيين المراد.
الثاني: أن انتفاء الإرادة ممتنع، وهو محرم، بل عليه أن يريد ما أراده منه، ولا بد له من ذلك.