قال بعضهم :
الحب أول ما يكون لجاجة يأتي به ويسوقه الأقدار
[ ص: 182 ] /حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى جاءت أمور لا تطاق كبار
فلو لم ينتقل العاشق بنفسه في هذه المراتب من مرتبة إلى مرتبة، حتى وصل إلى الحد الذي يؤذيه، لم يصبه أذى، فهو الجاني على نفسه، وأشبه به قول القائل: "يداك أوكتا وفوك نفخ" . فتصور بهذا أنه مخطئ بما صدر منه أو لا، وإن كان ينبغي أن يحتاط لنفسه ولا يورطها فيما فيه هلاكها.
فعلى هذا فالعاشق له ثلاث مقامات : مبتدأ، ومتوسط، ونهاية.
أما مبتدؤه ففي أول الأمر واجب عليه كتمان ذلك وعدم إفشائه للمخلوقين، تقليلا للوشاة عليه، وإمالة لقلب محبوبه إليه، مراعيا في ذلك شرائط الفتوة من العفة مع القدرة، وإلا التحق بالشيطان الرجيم وحزبه، فازداد به الأمر إلى المقام الأوسط، فيغلب عليه الحال، فلا بأس بإعلام محبوبه بمحبته إياه، فيخف بإعلامه له وشكواه إليه ما يجده منه، ويحذر من إطلاع الناس على ذلك، فهو يكون سبب هلاكه. فإن زاد به الأمر حتى يخرج عن الحدود والضوابط المذكورة، فقد التحق من هذا حاله بالمجانين والمولهين.
على أن من لما ذكرنا من ترويضه للنفس وتهذيبه للأخلاق، فجعله مشروطا بالعفة المذكورة، كما قال قائلهم: "عفوا تشرفوا، واعفوا تطرفوا". وقال الأحنف بن قيس : [ ص: 183 ] رخص في العشق من العقلاء،
أتأذنون لصب في زيارتكم فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر الشوق إن طال الجلوس به عف الضمير ولكن فاسق النظر
وقيل لبعض العش : ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى؟ قال:
كنت أمنع طرفي من وجهه، وأروح قلبي بذكره وحديثه، أستر منه ما لا يحب كشفه، ولا أصير بفتح القفل إلى ما ينقض عهده. وأنشد :
أخلو به فأعف عنه كأنني خوف الديانة لست من عش ه
كالماء في يد صائم يلتذه ظمأ فيصبر عن لذيذ مذاقه
وانقسموا قسمين:
قسم قنعوا بالنظرة البعيدة ولو في مدة مديدة، كما قال شاعرهم:
ليس في العاشقين أقنع مني أنا أرضى بنظرة من بعيد
وقال الآخر:
لو مر في خاطري تقبيل وجنته لسيلت فكري عن عارضيه دما
وقال آخر:
وأحفظه عن ناظري ومقلتي مخافة أن العين تجرح خده
واستمروا على هذه الحالة، فمنهم من يموت وهو كذلك، لا يظهر سره لأحد، حتى محبوبه لا يدري به. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: . وهذا مقام [ ص: 184 ] عظيم يرفع، إن تركه وحسم مادته [فهو] أفضل وأقرب إلى الحق كما ذكرنا. "من عشق فعف فكتمه فمات منه فهو شهيد"