فصل
كما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان ومتى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلا عن كنائس العنوة، لقريظة والنضير لما نقضوا العهد، فإن ناقض العهد أسوأ حالا من المحارب الأصلي، كما أن ناقض الإيمان بالردة أسوأ حالا من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهل مصر من الأمصار، ولم يبق من دخل في عهدهم، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئا.
فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لم يعقد لهم الذمة أن يقرهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه، وإنما اختلفوا في جواز بقائه. وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئا للمسلمين.
أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قسم العقار فظاهر.
وأما على قول من يوجب قسمه فلأن عين المستحق غير معروف، [ ص: 369 ] كسائر الأموال التي لا يعرف لها مالك معين.
وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقدير لا حقيقة له، فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجه له، ولا أعلم به قائلا، فلا يفرع عليه، وإنما الخلاف في الجواز.
نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نقل بدخولهم في عهد آبائهم، لأن لهم شبهة الأمان والعهد، بخلاف الناقضين، فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له، فإن صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عرف أنه حقه، وما وقع الشك فيه على هذا التقدير فهو لبيت المال. وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقض عهد فهم على الذمة، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة، وأهل داره من أهل الذمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين، لأن الصبي لما لم يكن مستقلا بنفسه جعل تابعا لغيره في الإيمان والأمان.
وعلى هذا جرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقد آخر. وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديما قبل فتح المسلمين، أما ما أحدث بعد ذلك فإنه يجب إزالته، ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس، كما شرط عليهم رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه : "ألا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا ولا قلاية"، امتثالا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عمر بن الخطاب رواه "لا تكون قبلتان ببلد واحد". أحمد بإسناد جيد ، ولما [ ص: 370 ] روي عن وأبو داود رضي الله عنه قال: "لا كنيسة في الإسلام" . عمر بن الخطاب
وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ويعمل به، مثل الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى، فروى عمر بن عبد العزيز عنه أنه كتب إلى نائبه عن الإمام أحمد اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمها بصنعاء وغيرها.
وروى عن الإمام أحمد أنه قال: "من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار، القديمة والحديثة" . وكذلك الحسن البصري في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد هارون الرشيد بغداد، وكذلك لما ألزم أهل الكتاب بشروط المتوكل استفتى علماء وقته في عمر فأجابوه، فبعث بأجوبتهم إلى هدم الكنائس والبيع، فأجابه بهدم كنائس سواد الإمام أحمد، العراق، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فمما ذكره ما روي عن رضي الله عنهما أنه قال : أيما مصر مصرته العرب -يعني المسلمين-، فليس للعجم -يعني أهل الذمة- أن يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسا، ولا يشربوا فيه خمرا. ابن عباس
وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب، فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلفوهم فوق طاقتهم.