ولم يقل أحد من أئمة الدين أن الميت يؤجر على استماعه للقرآن، وإن قال ذلك بعض المتأخرين الذين ليسوا أئمة، فإنه ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".
فقد أخبر أن عمله ينقطع من سوى المسمى، والاستماع الذي يؤجر عليه من الأعمال، والميت يسمع بلا ريب، كما ثبت ذلك بالنصوص واتفاق أهل السنة، كما في الصحيح أنه وأنه لما خاطب أهل "يسمع خفق نعالهم حتى [ ص: 132 ] يولون عنه مدبرين"، قليب بدر قال : ولهذا "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". ولولا أنه يسمع السلام لم يؤمر بالسلام عليه. وقد قال أمر الزائر أن يسلم على الميت، : ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ابن عبد البر "ما من رجل يمر بقبر رجل يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام". لكن الإدراك لا يستلزم أن يكون مما يؤجر عليه ويثاب عليه، وإن كان الميت يتنعم ببعض ما يسمعه، كما يعذب بالنياحة عليه. وليس تعذيبه عقابا على النياحة، لأنها ليست من عمله، وإنما هي من جنس الآلام التي تلحق العبد من غير عمله، كشم الروائح الخبيثة وسمع الأصوات المنكرة ورؤية الأشياء المروعة. ولو كان هذا الاستماع مما يؤجر عليه لكان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين أحق بعمل ذلك.
ولم يكونوا يجتمعون عند القبر لختم القرآن عنده، كما يفعل ذلك بعض المتأخرين، بل تنازع العلماء في فكرهها القراءة عند القبر: أبو حنيفة وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخص فيها في الرواية الأخرى لما بلغه عن ومالك أنه وصى أن يقرأ عند دفنه بفواتح البقرة وخواتمها. والرخصة إما مطلقا وإما حال الدفن خاصة، ولكن اتخاذ ذلك سنة راتبة لم يذهب إليه أحد من أئمة المسلمين. ابن عمر
فإذا كان هذا حال من يقرأ القرآن محتسبا فكيف من يقرؤه بالكراء، فإن العلماء قد تنازعوا في جواز فقيل: يجوز ذلك، كما هو في مذهب الاستئجار على تعليم القرآن والفقه والحديث والإمامة في الصلاة والأذان والحج عن الغير، الشافعي قريب منه، وقيل: لا يجوز، [ ص: 133 ] كما هو مذهب ومالك وغيره، وهو أشهر الروايتين عن أبي حنيفة وفيها قول ثالث في مذهب أحمد. وغيره: إنه يجوز مع الحاجة دون الغنى، كما في ولي اليتيم أحمد ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف .