[ ص: 73 ] وقد ثبت أنه آدم ليشفع لهم، فيردهم إلى نوح، ويردهم نوح إلى إبراهيم، ويردهم إبراهيم إلى موسى، ويردهم موسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى سائر النبيين وآل كل وسائر الصالحين، فإذا أتوا محمدا أفضل الشفعاء وأعظم الخلق جاها عند الله قال: "فآتي ربي، فإذا رأيته خررت له ساجدا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع". فلا يشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة، كما قال تعالى: يوم القيامة يراجع الناس الشفاعة، فيأتون إلى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، وقال تعالى: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له .
فإذا كان عز وجل، فكيف يقال: إن الله لا يعذب أحدا إلا إذا رضي هؤلاء أن يعذبهم؟ أفضل الخلق لا يشفع في أحد إلا بإذن الله
ومعلوم أن العبد عليه أن يتبع رضا الله عز وجل، فيفعل ما أمر، ويرضى بما قدر. وأما الرب عز وجل إذا أراد أن يهلك أعداءه هل يشاور أحدا، أو يتوقف فعله على رضا أحد من عباده؟ بل هؤلاء العباد إن كانوا راضين بما أمرهم أن يرضوا به، وإلا وجبت التوبة عليهم. ألا ترى أن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض، وأغرق فيهم ابن نوح الذي قال له نوح: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم . [ ص: 74 ]
وبعد هذا دعا نوح ربه فقال: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ، قال الله: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم . فإذا كان الله لما استحق ابن نوح الهلاك أهلكه، وسأل نوح فيه فعاتب الله نوحا على سؤاله، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فكيف يقال: إنه لا يعذب أحدا إلا برضا طائفة من عباده؟ فهل يكون أحد أفضل من أولي العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ومحمد؟
وقد واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك أي محنتك واختبارك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة ... الآية.
وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا .
فهذا حال الرسل مع الله يرد على من يغلو فيهم، فكيف يقال: إن له عبادا لا يعذب أحدا إلا برضاهم؟ بل يقال: هؤلاء العباد لو أراد أن يهلكهم فمن يملك دفع بأس الله عنهم؟ وهؤلاء العباد عليهم [ ص: 75 ] أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، ففي صحيح عن البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبي هريرة "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
وفي صحيح عن مسلم الأغر المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مئة مرة".
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة".
وثبت عنه في الصحيحين أنه كان يقول: "اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت".
وهذا وأمثاله في دعاء الأنبياء وتضرعهم واستغفارهم وتوبتهم كثير في الكتاب والسنة، وهم يسألون الله رحمته لهم ولغيرهم، ويستعيذون بالله من عذابه أن ينزل بهم أو بمن يطلبون دفعه عنهم، فكيف يكون تعذيب رب العالمين لمن شاء تعذيبه لا يكون إلا برضا بعض الناس؟.
لكن قد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت: وجبت لها
النار، أنتم شهداء الله في الأرض". أنه مر عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال: "وجبت"، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها [ ص: 76 ] شرا، فقال: "وجبت"، قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت:
وفي المسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار"، قيل: بم يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن والثناء السيئ".
وأيضا فقد يدعون الله لمن يحبونه، فينفعه الله بدعائهم، ويدعون على غيره، فيتضرر بدعائهم. فأولياء الله المتقون هم شهداء الله في الأرض، بما جعله الله من النور في قلوبهم، فمن أثنوا عليه خيرا كان من أهل الخير، ومن أثنوا عليه شرا كان من أهل الشر.
والملائكة يؤيد الله بهم عباده المؤمنين، كما قال تعالى: ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ، وقال: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا . وقال: فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها . وقال.... .
وأما حزب الشيطان فيعاونهم الشياطين شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم . .... . [ ص: 77 ]