وإذا كان القرآن قد فرق بين العذاب الذي يستعقبه الموت وبين [ ص: 369 ] غيره وجب الفرق ، وإن كان مرضه مخوفا . فقوم والمريض تقبل توبته ما لم يغرغر ويعاين ملك الموت ، يونس إنما أخبر الله عنهم أنهم لما آمنوا كشف عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ، فبين أن العذاب المكشوف كان مما يعذب به في الحياة الدنيا لم يكن هو العذاب الموجب للهلاك ، ولو لم يفسر ذلك فلفظ العذاب مجمل ، والقرآن قد فرق بين النوعين ، فلا يجوز حمل هذا العذاب على العذاب الموجب للموت الذي لا يقبل معه توبة ، فإن في هذا مخالفة لسائر آيات القرآن ولحكمة الرب وعدله بلا دليل ؛ إذ كان اللفظ المجمل لا يعين أحد النوعين ، فكيف إذا كان معه ما يقتضي التعيين أنه كان العذاب الأدنى ، وإن كانوا قد عاينوه وأصابهم ، فالتوبة بعد هذا العذاب مقبولة ، فقد أصاب قوم فرعون من أنواع العذاب ما ذكره الله ، ومع هذا فقد كان يقبل توبتهم لو تابوا ووعدوا بالإرسال ، فلما كشف عنهم العذاب نقضوا عهدهم .
وما روي أنه غشيهم العذاب كالغمام الأسود واسودت أسطحتهم ونحو ذلك الله أعلم بثبوته ، فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر ذلك إنما يأخذه المسلمون عن أهل الكتاب ، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصدقهم أو نكذبهم . لكن مثل هذا العذاب قد يكون تهديدا : إن [ ص: 370 ] تبتم وإلا أصابكم كنتق الجبل فوق بني إسرائيل ، وهذا من أعظم الآيات . قيل لهم : إن أخذتم التوراة وإلا أطبقناه .
ومما يبين ذلك أن القوم لم يطل مقام يونس عندهم ، بل حين كذبوه وعدهم بالعذاب كما نقله هؤلاء ، ومثل هذا يكون عذاب تهديد ، كما قد يصيب الناس من الجدب والجوع ما هو أعظم من ذلك ، ويصيبهم من الوباء والطاعون ما يصيبهم ، والذين عبدوا العجل أمرهم الله بقتل بعضهم بعضا وقبل توبتهم ، ثم بعثهم من بعد موتهم لعلهم يشكرون . وإنما . الذي لا يقبل معه توبة ما يقترن به الموت كغرق فرعون ونحوه