( فوائد ) :
( الأولى ) : أول من شاب إبراهيم خليل رب العالمين ، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، فقال : يا رب ما هذا ؟ فقال تعالى : هذا وقارك ، فقال إبراهيم عليه السلام : رب زدني وقارا ، فما برح حتى ابيضت لحيته الشريفة .
وعن رضي الله عنه قال : كان الرجل يبلغ الهرم ولم يشب ، وكان في القوم والد وولد فلا يعرف الابن من الأب ، فقال علي إبراهيم عليه السلام : يا رب اجعل لي شيئا أعرف به ، فأصبح رأسه ولحيته أبيضين أزهرين أنورين .
وقال القرطبي في تذكرته ما نصه : وفي الإسرائيليات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما رجع من تقريب ولده إلى ربه عز وجل رأت سارة في لحيته شعرة بيضاء ، وكان عليه الصلاة والسلام أول من شاب ، فأنكرتها وأرته إياها فجعل يتأملها فأعجبته ، وكرهتها سارة وطالبته بإزالتها فأبى [ ص: 423 ] وأتاه ملك فقال : السلام عليك يا إبراهيم ، وكان اسمه إبرام فزاده في اسمه هاء . والهاء في السريانية للتفخيم والتعظيم : ففرح بذلك فقال أشكر إلهي وإله كل شيء ، فقال له الملك : إن الله قد صيرك معظما في أهل السموات وأهل الأرض ، وقد وسمك بسمة الوقار في اسمك وفي خلقك أما اسمك فلأنك تدعى في أهل السماء وأهل الأرض إبراهيم ، وأما خلقك فقد أنزل الله نورا ووقارا على شعرك . فأخبر سارة بما قال له الملك وقال : هذا الذي كرهتيه نور ووقار . قالت : فإني كارهة له ، قال لكني أحبه اللهم زدني وقارا ونورا ، فأصبح وقد ابيضت لحيته كلها .
وروى الحافظ بسنده عن ابن عساكر القاسم بن أمامة قال : بينما إبراهيم عليه السلام ذات يوم يصلي صلاة الضحى إذ نظر إلى كف خارجة من السماء بين أصبعين من أصابعها شعرة بيضاء فلم تزل تدنو حتى دنت من رأس إبراهيم عليه الصلاة والسلام . فألقت الشعرة البيضاء في رأسه ثم قالت أشعل وقارا . وفي رواية أشعل خده فأشعل رأسه منها شيبا فأوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أن يتطهر فتوضأ ثم أوحى إليه أن يتطهر فاغتسل ثم أوحى إليه أن يتطهر فاختتن فكان إبراهيم عليه السلام أول من شاب واختتن .
وقد مضت سنة النساء وعادتهن على كراهية الشيب وهذا مشاهد في العيان . وقد أكثر الشعراء من ذكر ذلك في الجاهلية والإسلام قال علقمة بن عبدة الفحل الجاهلي من قصيدة له طويلة من الطويل مطلعها :
طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب
إلى أن يقول فيها :فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه وشرخ الشباب عندهن عجيب
وقال محمد بن عيسى المخزومي في ذلك :
قالت أحبك قلت كاذبة غري بذا من ليس ينتقد
لو قلت لي أشناك قلت نعم الشيب ليس يحبه أحد
وخود دعتني إلى وصلها وعصر الشبيبة مني ذهب
فقلت مشيبي لا ينطلي فقالت بلى ينطلي بالذهب
وقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص البصري وأنشدهما الخبيث : الحجاج بن يوسف الثقفي
فما منك الشباب ولست منه إذا سألتك لحيتك الخضابا
وما يرجو الكبير من الغواني إذا ذهبت شبيبته وشابا
وخيرها أبوها بين شيخ كثير المال أو حدث صغير
فقالت إن عزمت فكل شيء أحب إلي من وجه الكبير
ولما رأيت شيب رأسي بدا فقالت عسى غير هذا عسى
فقلت البياض لباس السرور وأما السواد لباس الأسى
فقالت صحيح ولكنه قليل النفاق بسوق النسا
لكلب عقور أسود اللون حالك على صدر سوداء الذوائب كاعب
أحب إليها من معانقة الذي له لحية بيضاء بين الترائب
وفي أوائله كالسيوطي : أول من خضب بالسواد فرعون . وأول من خضب بالسواد في الإسلام رضي الله عنه ، خرج على الناس وكان عهدهم أنه أبيض الشعر ، فعجب الناس منه . قال المغيرة بن شعبة السيوطي : وأول من خضب بالوسمة بمكة عبد المطلب ، قيل له لما نزل اليمن هل لك أن تغير هذا البياض فتعود شابا ، فخضب فدخل مكة كأن شعره حلك غراب ، فقال له بعض النساء يا شيبة الحمد لو دام لك هذا لكان حسنا ، فأنشد عبد المطلب : [ ص: 425 ]
فلو دام لي هذا السواد حمدته فكان بديلا من شباب قد انصرم
تمتعت منه والحياة قصيرة ولا بد من موت تبكيه أو هرم
وماذا الذي يجري على المرء حفظه ونعمته دوما إذا عرشه انهدم
عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرت بما هو عار
إن تكن شابت الذوائب مني فالليالي تنيرها الأقمار
لو كنت ذا مال وذا ثروة والشيب ما آن ولا قيل كاد
لجاملت جمل بميعادها وساعدت بالوصل منها سعاد
إذا مرضنا نوينا كل صالحة وإن شفينا فمنا الزيغ والزلل
نرضي الإله إذا خفنا ونعصيه إذا أمنا فما يزكو لنا عمل
وصفراء مثلي في القياس ودمعها سجام على الخدين مثل دموعي
تذوب كما في الحب ذابت صبابة وتحوي حشاها ما حوته ضلوعي
( الثالثة ) ذكر جماعة من علماء التفسير منهم القرطبي وغيره أن النذير في قول الله تعالى { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } قيل هو الشيب . وإلى هذا أشرت في قصيدة لي :
فوا أسفى ذهب الشباب وحل بي نذير أتاني أنني سوف أذهب
إليك أشكو رسول الله من وجلي نأى شبابي سدى واحتاط بي أجلي
نأى الشباب وجاء الشيب ينذرني بأنني راحل للقبر واخجلي
[ ص: 426 ] وأخجلني من مقام لست أنكره إذا بدا لي على روس الملا زللي
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي إني أتيت بلا علم ولا عمل
وما شنآن الشيب من أجل لونه ولكنه حاد إلى البين مسرع
إذا ما بدت منه الطليعة آذنت بأن المنايا خلفها تتطلع
فإن قصها المقراض صاحت بأختها فتظهر تتلوها ثلاث وأربع
وإن خضبت حال الخضاب لأنه يغالب صنع الله والله أصنع
فيضحي كريش الديك فيه تلمع وأفظع ما يكساه ثوب ملمع
إذا ما بلغت الأربعين فقل لمن يودك فيما تشتهيه ويسرع
هلموا لنبكي قبل فرقة بيننا فما بعدها عيش لذيذ ومجمع
وخل التصابي والخلاعة والهوى وأم طريق الحق فالحق أنفع
وخذ جنة تنجي وزادا من التقى وصحبة مأمون فقصدك مفزع
واعلم أن العرب ما بكت على شيء ما بكت على الشباب . وما أحسن قول وكذلك من قال :
شيئان لو بكت الدموع عليهما عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحباب
تأمل رجعة الدنيا سفاها وقد صار الشباب إلى الذهاب
فليت الباكيات بكل أرض جمعن لنا فنحن على الشباب
ضحك المشيب برأسه فبكى بأعين كأسه
رجل تخونه الزما ن ببؤسه وببأسه
فجرى على غلوائه طلق الجموح بفأسه
أين الشباب وأية سلكا لا أين يطلب ضل بل هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى
يا سلم ما بالمشيب منقصة لا سوقة يبقي ولا ملكا
قصر الغواية عن هوى قمر وجد السبيل إليه مشتركا
إذا كان البياض لباس حزن بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبست ثياب شيبي لأني قد حزنت على الشباب