فصل
قاعدة : قد ، وهاتان القوتان جنسان عاليان تحتهما أنواع ، ولهما توابع تختلف أسماؤها وأحكامها ، مثل الشهوة والغضب اللذين للحيوان مطلقا ، ومثل الطمع والرجاء والرغبة التابع للحب ، والخوف والفرق والرهبة التابع للبغض ، فإن الحي لا يرغب ويرجو إلا ما يحبه ويشتهيه ، ولا يخاف ولا يرهب إلا ما يبغضه وينفر عنه . عرف أن النفس بل وكل حي له قوتان : قوة الحب وقوة البغض
قال الله تعالى : ويرجون رحمته ويخافون عذابه [الإسراء :57] ، وقال : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا [السجدة :16] ، وقال : ويدعوننا رغبا ورهبا [الأنبياء :90]
وكل وعد ووعيد في القرآن فهو ترغيب وترهيب وتخويف وترجية ، فإن النعيم محبوب للحي ، والعذاب مكروه له . والرجاء والخوف يتعلق بالمحبوب والمكروه قبل وقوعه ، وكل منهما مركب من قوة علمية وهو تجويز الوقوع ، وعملية وهو الحب والبغض .
ومن ذلك اللذة والفرح والسرور والنعيم ، فإنه متعلق بحصول المحبوب واندفاع المكروه ، والألم والغم والحزن والعذاب فإنه متعلق [ ص: 91 ] بحصول المكروه واندفاع المحبوب . فالحب والشهوة كالسبب الفاعل في المطلوبات ، والفرح واللذة كالعلة الغائية .
ومن ذلك أن الإرادة والرحمة والصلاة على الشيء من جنس المحبة ، والكراهة والغضب واللعنة من جنس البغض . وكذلك الحسد -الذي هو كراهة النعمة وتمني زوالها- من جنس البغض ، يخالف الغبطة التي قد تسمى حسدا ، وهي محبة لمثل نعمة الغير ، فإنها من جنس المحبة ، ولهذا حرم الأول دون الثاني ، وشرع الثاني في العلم والمال المنفقين في سبيل الله .
ومن ذلك أن المغفرة ودفع المكروه والرحمة فعل لمحبوب ، ومن ذلك أن الموالاة والمصادقة والمؤانسة والمعاشرة ونحو ذلك هي من توابع المحبة ، والمعاداة والمجانبة والمواحشة والمهاجرة هي من توابع البغض . ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : » ؛ لأن هاتين القوتين في القلب الذي هو يملك الحسد والعطاء والمنع في المال ، فإذا كان جميع الأفعال في النفس والمال لله صار العبد كله لله ، وذلك هو كمال الإيمان . «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان
واعلم أن المقصود بالقصد الأول هو فعل المحبوب ، وهو عبادة [ ص: 92 ] الله وحده لا شريك له ، فإن الجن والإنس خلقوا لذلك ، لكن لا يتم ذلك إلا بدفع المكروه ، والأول قوة الرزق والثاني قوة النصر ، ولا غنى لأحدهما عن الآخر ، فإن اندفاع المكروه بدون حصول المحبوب عدم ، إذ لا محبوب ولا مكروه ، وحصول المحبوب والمكروه وجود فاسد ، إذ قد حصلا معا ، وهما متقابلان في الترجيح ، فربما تختار بعض النفوس هذا وتختار بعضها هذا ، وهذا عند التكافؤ .