ثم قد يكون في الأخذ مفسدة يكون تركه أفضل ، وأما أخذه للنفس فليس أفضل إلا عند الحاجة إذا لم يكن فيه مفسدة ، وإلا فالغنى عن المال خير من أخذ الإنسان لنفسه .
فنقول : ، فالأول مذموم ، فإن إذا بذل للإنسان مال لنفسه فقد يتركه استعلاء على المعطي وارتفاعا ، وقد يتركه لئلا يستعلي المعطي عليه ويرتفع ، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى مذمومة . وأما الثاني فلا بأس به ، فإن الإنسان لا يذم بأن يحب أن يعلو عليه غيره ولا بأن يحب أن لا يعلو عليه غيره ، بل هذا يحمد ، فإن علو الغير عليه فيه ذل لدينه ، ونقص له ، واستعباد غير الله له . وهذه هي العزة التي قصدها من لم يقبل المال ، كقول التكبر على الناس وإرادة العلو عليهم : دعنا نعيش في عز الغنى عن الناس . فإنه كما قال القائل : ما وضعت يدي في قصعة أحد ، إلا ذللت له . أحمد
ولا ريب أن من نصرك أو رزقك كان له سلطان عليك ، فالمؤمن [ ص: 21 ] يؤثر أن لا يكون عليه سلطان إلا لله ولرسوله ولمن أطاع الله ورسوله ، ، يصح له دينه بذلك ، وإن قصد الترفع عليهم والترؤس والمرآة بالحال الأولى كان مذموما . وقد يقصد بترك الأخذ غنى نفسه عنهم وترك أموالهم لهم . وقبول مال الناس فيه سلطان لهم عليه ، فإذا قصد دفع هذا السلطان وهذا القهر عن نفسه كان حسنا محمودا
فهذه أربع مقاصد صالحة : غنى نفسه وعزتها ، حتى لا يفتقر إلى الخلق ولا يذل لهم ، وسلامة مالهم ودينهم ، [فكما] يتألفون بالعطاء لهم ، فكذلك في إبقاء أموالهم ، وقد يكون في ذلك أيضا حفظ دينهم ، فإنهم إذا قبل منهم المال قد يطمعون هم أيضا في أنواع من المعاصي ويتركون أنواعا من الطاعات ، فلا يقبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وفي ذلك منافع ومقاصد أخرى صالحة ، حتى لا ينقص عليهم أموالهم ، فلا يذهبها عنهم ولا يوقعهم بأخذها منهم فيما يكره لهم من الاستيلاء عليه ، ففي ذلك منفعة له أن لا يذل ولا يفتقر إليهم ، ومنفعة لهم أن يبقى لهم مالهم ودينهم . وقد يكون في ذلك منفعة تأليف قلوبهم بإبقاء أموالهم هم حتى يقبلوا .