والتحقيق أن نفي الإيمان وإثباته باعتبارين :
فمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان لم يدخل جميع الإيمان في قلبه ، وإنما دخل في قلبه شيء منه ، فهذا يثاب على أعماله وهو مسلم ومعه إيمان ، ولما يدخل كمال الإيمان في قلبه بل إيمانه ناقص ، ولهذا كان الصحابة وجمهور السلف على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28650الإيمان يزيد وينقص .
فالفاسق معه إيمان ناقص نقصا هو نقص جزء واجب ، وما كان كذلك فإنه ينفى ، وإن كان قد أثيب على فعل ما فعل لكن ما تبرأ ذمته ، ولا يعاقب عقوبة من لم يفعل شيئا . كمن ترك بعض واجبات العبادة فيقال : صل فإنك لم تصل ، ولا يكون من ترك الطمأنينة كمن ترك جميع الصلاة ، ولهذا تكمل الفرائض يوم القيامة من النوافل ، والعبد ينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها ،
[ ص: 244 ] إلا ثلثها ، إلا ربعها ، إلا خمسها ، إلا سدسها ، إلا سبعها ، إلا ثمنها ، إلا تسعها ، إلا عشرها . ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ; وليس بمنزلة المفطر ، بل وإن لم يحصل له ثواب فهل يرفع عنه عقاب الترك؟ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا بيان كيف ينفى الإيمان بفعل الكبائر . وذلك أن الإيمان الواجب لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إلى صاحبه مما سواهما ، ولا بد أن يخشى الله ويخافه ، فمن لا يحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يخشى الله تعالى فهذا ليس بمؤمن ، بل قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه . وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=81ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون .
فبين سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد المحاد لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن المؤمن لا يمكن أن يتولى الكافر ، والمودة والموالاة تتضمن المحبة ، فدل ذلك على أنه
nindex.php?page=treesubj&link=25031_28683لا بد في الإيمان من محبة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مما ينافي
[ ص: 245 ] محبة من حاد الله ورسوله ، ولهذا
nindex.php?page=treesubj&link=28802لا تكون موالاة الله ورسوله إلا بمعاداة من عادى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . كقول
إبراهيم والذين معه :
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=4قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده .
وفي الصحيحين أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650014 "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" .
وفي صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=hadith&LINKID=656142أن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب قال : "والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي! " . قال : "لا يا nindex.php?page=showalam&ids=2عمر ، حتى أكون أحب إليك من نفسك" . قال : "فلأنت أحب إلي من نفسي" . قال : "الآن يا عمر" .
بل أبلغ من ذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=24قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين . فهذا وعيد لمن كان أهله الذين يحبهم وأمواله التي يحبها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله . فكيف إذا كان الصور المحرمة والمال المحرم ومكاره كثيرة ، فكيف إذا كان هذا وهذا؟ وهو أحب إليه من الله
[ ص: 246 ] ورسوله بدون الجهاد .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ وَإِثْبَاتَهُ بِاعْتِبَارَيْنِ :
فَمَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ لَمْ يَدْخُلْ جَمِيعُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْهُ ، فَهَذَا يُثَابُ عَلَى أَعْمَالِهِ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَمَعَهُ إِيمَانٌ ، وَلَمَّا يَدْخُلْ كَمَالُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ بَلْ إِيمَانُهُ نَاقِصٌ ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28650الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ .
فَالْفَاسِقُ مَعَهُ إِيمَانٌ نَاقِصٌ نَقْصًا هُوَ نَقْصُ جُزْءٍ وَاجِبٍ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُنْفَى ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُثِيبَ عَلَى فِعْلِ مَا فَعَلَ لَكِنْ مَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ ، وَلَا يُعَاقَبُ عُقُوبَةَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا . كَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبَاتِ الْعِبَادَةِ فَيُقَالُ : صَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ، وَلَا يَكُونُ مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ كَمَنْ تَرَكَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا تُكْمَلُ الْفَرَائِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّوَافِلِ ، وَالْعَبْدُ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إِلَّا نِصْفُهَا ،
[ ص: 244 ] إِلَّا ثُلُثُهَا ، إِلَّا رُبْعُهَا ، إِلَّا خُمْسُهَا ، إِلَّا سُدْسُهَا ، إِلَّا سُبْعُهَا ، إِلَّا ثَمْنُهَا ، إِلَّا تُسْعُهَا ، إِلَّا عُشْرُهَا . وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ; وَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْطِرِ ، بَلْ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ثَوَابٌ فَهَلْ يُرْفَعُ عَنْهُ عِقَابُ التَّرْكِ؟ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ كَيْفَ يُنْفَى الْإِيمَانُ بِفِعْلِ الْكَبَائِرِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَيَخَافَهُ ، فَمَنْ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى فَهَذَا لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ ، بَلْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ . وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=81وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ .
فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُؤْمِنٌ يَوَادُّ الْمُحَادَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرَ ، وَالْمَوَدَّةُ وَالْمُوَالَاةُ تَتَضَمَّنُ الْمَحَبَّةَ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=25031_28683لَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يُنَافِي
[ ص: 245 ] مَحَبَّةَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَلِهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28802لَا تَكُونُ مُوَالَاةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّا بِمُعَادَاةِ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . كَقَوْلِ
إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=4قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650014 "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" .
وَفِي صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ nindex.php?page=hadith&LINKID=656142أَنَّ nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : "وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي! " . قَالَ : "لَا يَا nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ" . قَالَ : "فَلَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي" . قَالَ : "الْآنَ يَا عُمَرُ" .
بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=24قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهِ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ . فَهَذَا وَعِيدٌ لِمَنْ كَانَ أَهْلُهُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَأَمْوَالُهُ الَّتِي يُحِبُّهَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ . فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الصُّوَرُ الْمُحَرَّمَةُ وَالْمَالُ الْمُحَرَّمُ وَمَكَارِهُ كَثِيرَةٌ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ هَذَا وَهَذَا؟ وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ
[ ص: 246 ] وَرَسُولِهِ بِدُونِ الْجِهَادِ .