فصل
الشرك في العبادة
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28677الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك ، وأخف أمرا ، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله ، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله ، وأنه لا إله غيره ، ولا رب سواه ، ولكن لا يخص الله في معاملته وعبوديته ، بل يعمل لحظ نفسه تارة ، ولطلب الدنيا تارة ، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة ، فلله من عمله وسعيه نصيب ، ولنفسه وحظه وهواه نصيب ، وللشيطان نصيب ، وللخلق نصيب ، وهذا حال أكثر الناس ، وهو الشرك الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في صحيحه :
الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ، قالوا : كيف ننجو منه يا رسول الله ؟ قال : قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم .
[ ص: 132 ] فالرياء كله شرك ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=110قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ سورة الكهف : 110 ] .
أي : كما أنه إله واحد ، ولا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده ، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة .
وكان من دعاء
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ، ولا تجعل لأحد فيه شيئا .
وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل ، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا ، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله ، فيعاقب على ترك الأمر ، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته عبادة خالصة ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=5وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء [ البينة : 5 ] .
فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به ، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به ، فلا يصح ولا يقبل منه ، ويقول الله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=949459أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به ، وأنا منه بريء " .
أقسام الشرك
وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=29436الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور ، وأكبر وأصغر ، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر ، وليس شيء منه مغفور ، فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم : أن يحب مخلوقا كما يحب الله ، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=165ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [ سورة البقرة : 165 ] وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعهم الجحيم :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=97تالله إن كنا لفي ضلال مبين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=98إذ نسويكم برب العالمين [ سورة الشعراء : 97 - 98 ] .
ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق ، والرزق ، والإماتة ، والإحياء ، والملك ، والقدرة ، وإنما سووهم به في الحب ، والتأله ، والخضوع لهم والتذلل ، وهذا غاية الجهل والظلم ، فكيف يسوى التراب برب الأرباب ، وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ، وكيف
[ ص: 133 ] يسوى الفقير بالذات الضعيف بالذات العاجز بالذات المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم ، بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه ، وقدرته وملكه وجوده ، وإحسانه ، وعلمه ، ورحمته ، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته ؟
فأي ظلم أقبح من هذا ؟ وأي حكم أشد جورا منه ؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ سورة الأنعام : 1 ] .
فعدل المشرك من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه .
فَصْلٌ
الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28677الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ فَهُوَ أَسْهَلُ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ ، وَأَخَفُّ أَمْرًا ، فَإِنَّهُ يَصْدُرُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ ، وَلَكِنْ لَا يَخُصُّ اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ ، بَلْ يَعْمَلُ لِحَظِّ نَفْسِهِ تَارَةً ، وَلِطَلَبِ الدُّنْيَا تَارَةً ، وَلِطَلَبِ الرِّفْعَةِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْجَاهِ عِنْدَ الْخَلْقِ تَارَةً ، فَلِلَّهِ مِنْ عَمَلِهِ وَسَعْيِهِ نَصِيبٌ ، وَلِنَفْسِهِ وَحَظِّهِ وَهَوَاهُ نَصِيبٌ ، وَلِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ ، وَلِلْخَلْقِ نَصِيبٌ ، وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ :
الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، قَالُوا : كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ .
[ ص: 132 ] فَالرِّيَاءُ كُلُّهُ شِرْكٌ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=110قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 110 ] .
أَيْ : كَمَا أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وَلَا إِلَهَ سِوَاهُ ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لَهُ وَحْدَهُ ، فَكَمَا تَفَرَّدَ بِالْإِلَهِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعُبُودِيَّةِ ، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْخَالِي مِنَ الرِّيَاءِ الْمُقَيَّدُ بِالسُّنَّةِ .
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خَالِصًا ، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا .
وَهَذَا الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعَمَلِ ، وَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ وَاجِبًا ، فَإِنَّهُ يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَعْمَلْهُ ، فَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ عِبَادَةً خَالِصَةً ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=98&ayano=5وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [ الْبَيِّنَةِ : 5 ] .
فَمَنْ لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ ، بَلِ الَّذِي أَتَى بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ، وَيَقُولُ اللَّهُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=949459أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ " .
أَقْسَامُ الشِّرْكِ
وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29436الشِّرْكُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَغْفُورٍ وَغَيْرِ مَغْفُورٍ ، وَأَكْبَرَ وَأَصْغَرَ ، وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ يَنْقَسِمُ إِلَى كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ مَغْفُورٌ ، فَمِنْهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ : أَنْ يُحِبَّ مَخْلُوقًا كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ ، فَهَذَا مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي قَالَ سُبْحَانَهُ فِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=165وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 165 ] وَقَالَ أَصْحَابُ هَذَا الشِّرْكِ لِآلِهَتِهِمْ وَقَدْ جَمَعَهُمُ الْجَحِيمُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=97تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=98إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 97 - 98 ] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَا سَوَّوْهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْخَلْقِ ، وَالرِّزْقِ ، وَالْإِمَاتَةِ ، وَالْإِحْيَاءِ ، وَالْمُلْكِ ، وَالْقُدْرَةِ ، وَإِنَّمَا سَوَّوْهُمْ بِهِ فِي الْحُبِّ ، وَالتَّأَلُّهِ ، وَالْخُضُوعِ لَهُمْ وَالتَّذَلُّلِ ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ ، فَكَيْفَ يُسَوَى التُّرَابُ بِرَبِّ الْأَرْبَابِ ، وَكَيْفَ يُسَوَى الْعَبِيدُ بِمَالِكِ الرِّقَابِ ، وَكَيْفَ
[ ص: 133 ] يُسَوَى الْفَقِيرُ بِالذَّاتِ الضَّعِيفُ بِالذَّاتِ الْعَاجِزُ بِالذَّاتِ الْمُحْتَاجُ بِالذَّاتِ ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ ، بِالْغَنِيِّ بِالذَّاتِ ، الْقَادِرِ بِالذَّاتِ ، الَّذِي غِنَاهُ ، وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَجُودُهُ ، وَإِحْسَانُهُ ، وَعِلْمُهُ ، وَرَحْمَتُهُ ، وَكَمَالُهُ الْمُطْلَقُ التَّامُّ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ؟
فَأَيُّ ظُلْمٍ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا ؟ وَأَيُّ حُكْمٍ أَشَدُّ جَوْرًا مِنْهُ ؟ حَيْثُ عَدَلَ مَنْ لَا عِدْلَ لَهُ بِخَلْقِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 1 ] .
فَعَدَلَ الْمُشْرِكُ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ، بِمَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ، فَيَا لَكَ مِنْ عَدْلٍ تَضَمَّنَ أَكْبَرَ الظُّلْمِ وَأَقْبَحَهُ .