فصل
nindex.php?page=treesubj&link=28683المحبة أصل كل دين
وكما أن المحبة والإرادة أصل كل فعل كما تقدم ، فهي أصل كل دين سواء أكان حقا أو باطلا ، فإن الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة ، والمحبة والإرادة أصل ذلك كله ، والدين هو الطاعة والعبادة والخلق ، فهو الطاعة اللازمة الدائمة التي صارت خلقا وعادة ، ولهذا فسر الخلق بالدين في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4وإنك لعلى خلق عظيم [ سورة القلم : 4 ] .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد عن
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : لعلى دين عظيم .
nindex.php?page=hadith&LINKID=949542وسئلت عائشة عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : " كان خلقه القرآن " . [ ص: 206 ] والدين فيه معنى الإذلال والقهر ، وفيه معنى الذل والخضوع والطاعة ، فلذلك يكون من الأعلى إلى الأسفل ، كما يقال : دنته فدان ، أي قهرته فذل .
قال الشاعر :
هو دان الرباب إذ كرهوا الد ين فأضحوا بعزة وصيال
ويكون من الأدنى إلى الأعلى ، كما يقال : دنت الله ، ودنت لله ، وفلان لا يدين الله دينا ، ولا يدين الله بدين ، فدان الله : أي أطاع الله وأحبه وخافه ، ودان الله : تخشع له وخضع وذل وانقاد .
والدين الباطن لا بد فيه من الحب والخضوع كالعبادة سواء ، بخلاف الدين الظاهر ، فإنه لا يستلزم الحب ، وإن كان فيه انقياد وذل في الظاهر .
وسمى الله سبحانه يوم القيامة [ يوم الدين ] فإنه اليوم الذي يدين فيه الناس فيه بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وذلك يتضمن جزاءهم وحسابهم ، فلذلك فسروه بيوم الجزاء ، ويوم الحساب .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=86فلولا إن كنتم غير مدينين nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=87ترجعونها إن كنتم صادقين [ سورة الواقعة : 86 - 87 ] .
أي هلا تردون الروح إلى مكانها إن كنتم غير مربوبين مقهورين ولا مجزيين ، وهذه الآية تحتاج إلى تفسير ، فإنها سيقت للاحتجاج عليهم في إنكارهم البعث والحساب ، ولا بد أن يكون الدليل مستلزما لمدلوله ، بحيث ينتقل الذهن منه إلى المدلول ، لما بينهما من التلازم ، فيكون الملزوم دليلا على لازمه ، ولا يجب العكس .
ووجه الاستدلال : أنهم إذا أنكروا البعث والجزاء فقد كفروا بربهم ، وأنكروا قدرته وربوبيته وحكمته ، فإما أن يقروا بأن لهم ربا قاهرا متصرفا فيهم ، كما سيميتهم إذا شاء ويحييهم إذا شاء ، ويأمرهم وينهاهم ، ويثيب محسنهم ويعاقب مسيئهم ، وإما أن لا يقروا برب هذا شأنه ، فإن أقروا به آمنوا بالبعث والنشور ، والدين الأمري والجزائي ، وإن أنكروه كفروا به ، فقد زعموا أنهم غير مربوبين ولا محكوم عليهم ، ولا لهم رب يتصرف فيهم كما أراد ، فهلا يقدرون على دفع الموت عنهم إذا جاءهم ، وعلى رد الروح إلى مستقرها إذا بلغت الحلقوم ، وهذا خطاب للحاضرين وهم عند المحتضر ، وهم يعاينون موته ، أي : فهلا تردون الروح إلى مكانها إن كان لكم قدرة وتصرف ، ولستم بمربوبين ولا بمقهورين لقاهر قادر ، تمضي عليكم أحكامه ، وتنفذ أوامره ، وهذه غاية التعجيز لهم ، إذ بين عجزهم عن رد نفس واحدة إلى
[ ص: 207 ] مكانها ، ولو اجتمع على ذلك الثقلان ، فيا لها من آية دالة على وحدانيته وربوبيته سبحانه ، وتصرفه في عباده ، ونفوذ أحكامه فيهم ، وجريانها عليهم .
الدين دينان
والدين دينان : دين شرعي أمري ، ودين حسابي جزائي ، وكلاهما لله وحده ، فالدين كله لله أمرا أو جزاء ، والمحبة أصل كل واحد من الدينين ، فإن ما شرعه سبحانه وتعالى وأمر به يحبه ويرضاه ، وما نهى عنه فإنه يكرهه ويبغضه ؛ لمنافاته لما يحبه ويرضاه ، فهو يحب ضده ، فعاد دينه الأمري كله إلى محبته ورضاه .
nindex.php?page=treesubj&link=19636ودين العبد لله به إنما يقبل إذا كان عن محبته ورضاه ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949543nindex.php?page=treesubj&link=19638_19637ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا ، فهذا مدين قائم بالمحبة وبسببها شرع ، ولأجلها شرع ، وعليها أسس ، وكذلك دينه الجزائي ، فإنه يتضمن مجازاة المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، وكل من الأمرين محبوب للرب ، فإنهما عدله وفضله ، وكلاهما من صفات كماله ، وهو سبحانه يحب صفاته وأسماءه ، ويحب من يحبها ، وكل واحد من الدينين فهو صراطه المستقيم الذي هو عليه سبحانه فهو على صراط مستقيم ، في أمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، كما قال تعالى إخبارا عن نبيه
هود عليه الصلاة والسلام إذ قال لقومه :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=54إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=55من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم [ سورة هود : 54 - 56 ] .
ولما علم نبي الله
هود عليه السلام أن ربه على صراط مستقيم في خلقه وأمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، وقضائه وقدره ، ومنعه وعطائه ، وعافيته وبلائه ، وتوفيقه وخذلانه ، لا يخرج في ذلك عن موجب كماله المقدس ، الذي يقتضيه أسماؤه وصفاته ، من العدل والحكمة والرحمة والإحسان والفضل ، ووضع الثواب مواضعه ، والعقوبة في موضعها اللائق بها ، ووضع التوفيق والخذلان والعطاء والمنع والهداية والإضلال ، كل ذلك في أماكنه ومحاله اللائقة به ، بحيث يستحق على ذلك كمال الحمد والثناء ، أوجب له ذلك العلم والعرفان ، إذ نادى على رؤوس الملأ من قومه بجنان ثابت وقلب غير خائف بل متجرد لله
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=54إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=55من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم .
ثم أخبر عن عموم قدرته وقهره لكل ما سواه ، وذل كل شيء لعظمته ، فقال :
[ ص: 208 ] nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ، فكيف أخاف من ناصيته بيد غيره ، وهو في قهره وقبضته وتحت قهره وسلطانه دونه ، وهل هذا إلا من أجهل الجهل ، وأقبح الظلم ؟
ثم أخبر أنه سبحانه على صراط مستقيم ، فكل ما يقضيه ويقدره فلا يخاف العبد جوره ولا ظلمه ، فلا أخاف ما دونه ، فإن ناصيته بيده ، ولا أخاف جوره وظلمه ، فإنه على صراط مستقيم ، فهو سبحانه ماض في عبده حكمه ، عدل فيه قضاؤه ، له الملك وله الحمد ، ولا يخرج في تصرفه في عباده عن العدل والفضل ، إن أعطى وأكرم وهدى ووفق فبفضله ورحمته ، وإن منع وأهان وأضل وخذل وأشقى فبعدله وحكمته ، وهو على صراط مستقيم في هذا وهذا .
وفي الحديث الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949544ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن ، فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك اللهم بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك : أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وغمه ، وأبدله مكانه فرجا ، قالوا : يا رسول الله ألا نتعلمهن ؟ قال : بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن .
وهذا يتناول حكم الرب الكوني والأمري وقضاءه الذي يكون باختيار العبد وغير اختياره ، وكلا الحكمين ماض في عبده ، وكلا القضائين عدل فيه ، فهذا الحديث مشتق من هذه الآية ، بينهما أقرب نسب .
فَصْلٌ
nindex.php?page=treesubj&link=28683الْمَحَبَّةُ أَصْلُ كُلِّ دِينٍ
وَكَمَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ أَصْلُ كُلِّ فِعْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَهِيَ أَصْلُ كُلِّ دِينٍ سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا ، فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ، وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ أَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ وَالْخُلُقُ ، فَهُوَ الطَّاعَةُ اللَّازِمَةُ الدَّائِمَةُ الَّتِي صَارَتْ خُلُقًا وَعَادَةً ، وَلِهَذَا فُسِّرَ الْخُلُقُ بِالدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=68&ayano=4وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ سُورَةُ الْقَلَمِ : 4 ] .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ .
nindex.php?page=hadith&LINKID=949542وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ " . [ ص: 206 ] وَالدِّينُ فِيهِ مَعْنَى الْإِذْلَالِ وَالْقَهْرِ ، وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ ، كَمَا يُقَالُ : دِنْتُهُ فَدَانَ ، أَيْ قَهَرَتْهُ فَذَلَّ .
قَالَ الشَّاعِرُ :
هُوَ دَانَ الرَّبَابَ إِذْ كَرِهُوا الدِّ ينَ فَأَضْحَوْا بِعِزَّةٍ وَصِيَالِ
وَيَكُونُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى ، كَمَا يُقَالُ : دِنْتُ اللَّهَ ، وَدِنْتُ لِلَّهِ ، وَفُلَانٌ لَا يَدِينُ اللَّهَ دِينًا ، وَلَا يَدِينُ اللَّهَ بِدِينٍ ، فَدَانَ اللَّهَ : أَيْ أَطَاعَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ وَخَافَهُ ، وَدَانَ اللَّهَ : تَخَشَّعَ لَهُ وَخَضَعَ وَذَلَّ وَانْقَادَ .
وَالدِّينُ الْبَاطِنُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ كَالْعِبَادَةِ سَوَاءً ، بِخِلَافِ الدِّينِ الظَّاهِرِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ انْقِيَادٌ وَذُلٌّ فِي الظَّاهِرِ .
وَسَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ يَوْمَ الدِّينِ ] فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَدِينُ فِيهِ النَّاسُ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ جَزَاءَهُمْ وَحِسَابَهُمْ ، فَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ ، وَيَوْمِ الْحِسَابِ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=86فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=87تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ سُورَةُ الْوَاقِعَةِ : 86 - 87 ] .
أَيْ هَلَّا تَرُدُّونَ الرُّوحَ إِلَى مَكَانِهَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْبُوبِينَ مَقْهُورِينَ وَلَا مَجْزِيِّينَ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ ، فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ مُسْتَلْزِمًا لِمَدْلُولِهِ ، بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْهُ إِلَى الْمَدْلُولِ ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلَازُمِ ، فَيَكُونُ الْمَلْزُومُ دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ ، وَلَا يَجِبُ الْعَكْسُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : أَنَّهُمْ إِذَا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَقَدْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، وَأَنْكَرُوا قُدْرَتَهُ وَرُبُوبِيَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ ، فَإِمَّا أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ لَهُمْ رَبًّا قَاهِرًا مُتَصَرِّفًا فِيهِمْ ، كَمَا سَيُمِيتُهُمْ إِذَا شَاءَ وَيُحْيِيهِمْ إِذَا شَاءَ ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ ، وَيُثِيبُ مُحْسِنَهُمْ وَيُعَاقِبُ مُسِيئَهُمْ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُقِرُّوا بِرَبٍّ هَذَا شَأْنُهُ ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ آمَنُوا بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ، وَالدِّينِ الْأَمْرِيِّ وَالْجَزَائِيِّ ، وَإِنْ أَنْكَرُوهُ كَفَرُوا بِهِ ، فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْبُوبِينَ وَلَا مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ ، وَلَا لَهُمْ رَبٌّ يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ كَمَا أَرَادَ ، فَهَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ ، وَعَلَى رَدِّ الرُّوحِ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ وَهُمْ عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ ، وَهُمْ يُعَايِنُونَ مَوْتَهُ ، أَيْ : فَهَلَّا تَرُدُّونَ الرُّوحَ إِلَى مَكَانِهَا إِنْ كَانَ لَكُمْ قُدْرَةٌ وَتَصَرُّفٌ ، وَلَسْتُمْ بِمَرْبُوبِينَ وَلَا بِمَقْهُورِينَ لِقَاهِرٍ قَادِرٍ ، تَمْضِي عَلَيْكُمْ أَحْكَامُهُ ، وَتَنْفُذُ أَوَامِرُهُ ، وَهَذِهِ غَايَةُ التَّعْجِيزِ لَهُمْ ، إِذْ بَيَّنَ عَجْزَهُمْ عَنْ رَدِّ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى
[ ص: 207 ] مَكَانِهَا ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ الثَّقَلَانِ ، فَيَا لَهَا مِنْ آيَةٍ دَالَّةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ ، وَتَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ ، وَنُفُوذِ أَحْكَامِهِ فِيهِمْ ، وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ .
الدِّينُ دِينَانِ
وَالدِّينُ دِينَانِ : دِينٌ شَرْعِيٌّ أَمْرِيٌّ ، وَدِينٌ حِسَابِيٌّ جَزَائِيٌّ ، وَكَلَاهُمَا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، فَالدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أَمْرًا أَوْ جَزَاءً ، وَالْمَحَبَّةُ أَصْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّينَيْنِ ، فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَمَرَ بِهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَمَا نَهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ ؛ لِمُنَافَاتِهِ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، فَهُوَ يُحِبُّ ضِدَّهُ ، فَعَادَ دِينُهُ الْأَمْرِيُّ كُلُّهُ إِلَى مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ .
nindex.php?page=treesubj&link=19636وَدِينُ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِهِ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا كَانَ عَنْ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949543nindex.php?page=treesubj&link=19638_19637ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا ، فَهَذَا مَدِينٌ قَائِمٌ بِالْمَحَبَّةِ وَبِسَبَبِهَا شُرِعَ ، وَلِأَجْلِهَا شُرِعَ ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَ ، وَكَذَلِكَ دِينُهُ الْجَزَائِيُّ ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُجَازَاةَ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ ، وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ ، فَإِنَّهُمَا عَدْلُهُ وَفَضْلُهُ ، وَكِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ صِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ ، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّينَيْنِ فَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نَبِيِّهِ
هُودٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=54إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=55مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ سُورَةُ هُودٍ : 54 - 56 ] .
وَلَمَّا عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ
هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَبَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَنْعِهِ وَعَطَائِهِ ، وَعَافِيَتِهِ وَبَلَائِهِ ، وَتَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ ، لَا يَخْرُجُ فِي ذَلِكَ عَنْ مُوجِبِ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ ، الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ ، مِنَ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ ، وَوَضْعِ الثَّوَابِ مَوَاضِعَهُ ، وَالْعُقُوبَةِ فِي مَوْضِعِهَا اللَّائِقِ بِهَا ، وَوَضْعِ التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ ، كُلُّ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنِهِ وَمِحَالِّهِ اللَّائِقَةِ بِهِ ، بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَالَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ ، أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْعِلْمَ وَالْعِرْفَانَ ، إِذْ نَادَى عَلَى رُؤُوسِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِجَنَانٍ ثَابِتٍ وَقَلْبٍ غَيْرِ خَائِفٍ بَلْ مُتَجَرِّدٍ لِلَّهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=54إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=55مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عُمُومِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ ، وَذُلِّ كُلِّ شَيْءٍ لِعَظَمَتِهِ ، فَقَالَ :
[ ص: 208 ] nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فَكَيْفَ أَخَافُ مَنْ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ فِي قَهْرِهِ وَقَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ دُونَهُ ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ أَجْهَلِ الْجَهْلِ ، وَأَقْبَحِ الظُّلْمِ ؟
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فَكُلُّ مَا يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ فَلَا يَخَافُ الْعَبْدُ جَوْرَهُ وَلَا ظُلْمَهُ ، فَلَا أَخَافُ مَا دُونَهُ ، فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِهِ ، وَلَا أَخَافُ جَوْرَهُ وَظُلْمَهُ ، فَإِنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَاضٍ فِي عَبْدِهِ حُكْمُهُ ، عَدْلٌ فِيهِ قَضَاؤُهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَلَا يَخْرُجُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ عَنِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ ، إِنْ أَعْطَى وَأَكْرَمَ وَهَدَى وَوَفَّقَ فَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَإِنْ مَنَعَ وَأَهَانَ وَأَضَلَّ وَخَذَلَ وَأَشْقَى فَبِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي هَذَا وَهَذَا .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949544مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، أَوِ اسْتَأْثَرَتْ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ : أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ صَدْرِي ، وَجِلَاءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي ، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ ؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ .
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حُكْمَ الرَّبِّ الْكَوْنِيَّ وَالْأَمْرِيَّ وَقَضَاءَهُ الَّذِي يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَكِلَا الْحُكْمَيْنِ مَاضٍ فِي عَبْدِهِ ، وَكِلَا الْقَضَائَيْنِ عَدْلٌ فِيهِ ، فَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، بَيْنَهُمَا أَقْرَبُ نَسَبٍ .