[ومن أرفعيتها وجوب إقامتها بجميع الجوارح : ]
ومن الدليل على عظم قدرها ، وفضلها على سائر الأعمال : أن كل فريضة افترضها الله ، فإنما افترضها على بعض الجوارح دون بعض ، ثم لم يأمر بإشغال القلب به إلا الصلاة ، فإنه أمر أن يقام بجميع الجوارح كلها ، وذلك أن ينتصبه العبد ببدنه كله ، ويشغل قلبه بها ، ليعلم ما يتلو ، وما يقول فيها ، ولم يفعل ذلك بشيء من الفرائض ، لم يمنع أن يشتغل العبد في شيء من الفرائض بعمل سواه ، إلا الصلاة وحدها ، فإن الصائم له ، أن يلتفت ، وينام ، ويتكلم بغير ذكر الصوم ، ويعمل بجوارحه ، ويشغلها فيما أحب من منافع الدنيا ، ولذاتها مما أحل له ، والمقاتل في سبيل الله ، له أن يلتفت ويتكلم ، والحاج في قضاء مناسكه ، قد أبيح له أن يتكلم ، كذلك فيما بين ذلك ، وينام ، ويشتغل بما أحب من منافع الدنيا المباحة له ، وله أن يتكلم في الطواف ، وكذلك إعطاء الزكاة ، وجميع الطاعات ، له أن يعمل فيها ، ويتفكر في غيرها ، ومنع المصلي من الأكل والشرب ، [ ص: 172 ] وجميع أعمال الدنيا من الالتفات ، والأفعال بالجوارح ، إلا بالصلاة وحدها ، ومن التفكر إلا فيما يتلو ، ويقول ، إلا أن مختلف في الضرر في الدين ، فمنه ما يفسد الصلاة ، ومنه ما يلزم به سجود السهو ، ومنه ما يكون منقوصا ، من الثواب على صلاته ، إلا أن أهل العلم مجتمعون ، على أنه إذا شغل جارحة من جوارحه بعمل من غير عمل الصلاة ، أو بفكر ، وشغل قلبه بالنظر في غير أمر الصلاة ، أنه منقوص من ثواب ، من لم يفعل ذلك ، تاركا جزءا من تمام صلاته وكمالها ، فالمصلي كأنه ليس في الدنيا ، ولا في شيء منها ، إذا كان بجميع قلبه ، وجميع بدنه في الصلاة ، فكأنه ليس في الأرض ، إلا أن ثقل بدنه عليها ، وذلك أنه يناجي الملك الأكبر ، فلا ينبغي أن يخلط مناجاة الإله العظيم بغيرها . العمل في الصلاة بغيرها ،
وكيف يفعل ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله مقبل عليه بوجهه ، فكيف يجوز لمن صدق ، بأن الله مقبل عليه بوجهه ، أن يلتفت ، أو يغيب ، أو يتفكر ، أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه بوجهه ؛ لأن اشتغاله في صلاته ، بغيرها من الالتفات ، أو العبث ، أو التفكر في شيء من الدنيا ، هو إعراض عمن أقبل عليه ، وما يقوى قلب عاقل لبيب ، أن يقبل عليه من الخلق ، من له عنده قدر ، فيراه يولي عنه بمعنى من المعاني ، وكل مقبل سوى الله ، لا يطلع على ضمير من ولى عنه بضميره ، والله تعالى مقبل على المصلي بوجهه ، يرى إعراضه بضميره ، وبكل جارحة من جوارحه ، سوى صلاته ، التي أقبل عليه بوجهه من [ ص: 173 ] أجلها ، فكيف يجوز لمؤمن عاقل ، أن يملها أو يلتفت ، أو يتشاغل بغير الإقبال على رب العالمين ، إذ أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله مقبل عليه بوجهه ، فهل يفعل ذلك من فعله ، إلا قلة مبالاة بالمقبل عليه ، أو كيف يجوز لمن عرف أن الله مقبل عليه وهو مناج له ، أن يعرض عنه ، بما قل أو كثر .