الوجه السادس والثلاثون : أن ظاهر
nindex.php?page=treesubj&link=28727الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه جميع أهل اللغة وأهل التفسير المقبول ، وقد صرح
nindex.php?page=treesubj&link=29639المنكرون للاستواء بأن الله لا يجوز أن يتكلم بشيء ويعني به خلاف ظاهره ، كما قال صاحب المحصول وغيره ، وهذا لفظه " لا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويعني به خلاف ظاهره " والخلاف مع
المرجئة ، ثم احتج على ذلك بأنه عبث وهو على الله محال ، والذي احتج به على
المرجئة يحتج به عليه أهل السنة بعينه ، وهذا الذي قاله هو الحق وهو ما اتفق عليه العقلاء ، فلا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويريد به خلاف ظاهره إلا وفي السياق ما يدل على ذلك بخلاف المجمل ، فإنه يجوز عندهم أن يتكلم به لأنه لم يرد به خلاف ظاهره ، والفرق بينهما إيقاع الأول في اللبس واعتقاد الخطأ بخلاف المجمل ، فكيف إذا كان مع ظاهره من القرآن ما ينفي إرادة غيره ، فدعوى إرادة غير الظاهر حينئذ ممتنع من الوجهين .
الوجه السابع والثلاثون : أن حقيقة هذا المجاز أنه ليس فوق السماوات رب ، ولا على العرش إلا العدم المحض ، وليس هناك من ترفع إليه الأيدي ويصعد إليه الكلم الطيب ، وتعرج الملائكة والروح إليه ، وينزل الوحي من عنده ويقف العباد بين يديه ، ولا عرج برسوله إليه حقيقة ، ولا رفع
المسيح إليه حقيقة ولا يجوز أن يشير إليه أحدنا بإصبعه إلى فوق كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يقال : أين هو كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يسمع من يقول : أين ويقره عليه ، كما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من السائل وأقره عليه ، ولا يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا فوقهم ولا له حجاب حقيقة يحتجب به عن خلقه ، ولا يقرب منه شيء ، ولا يبعد منه شيء ، ونسبته من فوق السماوات كلها إلى القرب منه كنسبة من في أسفل سافلين ، كلها في القرب من ذاته سواء ، فهذا حقيقة هذا المجاز وحاصله ، ومعلوم أن هذا أشد مناقضة لما جاءت به الرسل منه للمعقول الصريح ، فيكون من أبطل الباطل .
[ ص: 387 ] الوجه الثامن والثلاثون : أن الله سبحانه ذم المحرفين للكلم ، والتحريف نوعان : تحريف اللفظ ، وتحريف المعنى ، فتحريف اللفظ : العدول به عن جهته إلى غيرها ، إما بزيادة وإما بنقصان وإما بتغيير حركة إعرابية ، وإما غير إعرابية ، فهذه أربعة أنواع ، وقد سلك فيها
الجهمية والرافضة ، فإنهم حرفوا نصوص الحديث ولم يتمكنوا من ذلك في ألفاظ القرآن ، وإن كان
الرافضة حرفوا كثيرا من لفظه ، وادعوا أن أهل السنة غيروه عن وجهه .
وأما تحريف المعنى فهذا الذي جالوا وصالوا وتوسعوا وسموه تأويلا ، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد به استعمال في اللغة ، وهو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته ، وإعطاء اللفظ معنى لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما ، وأصحاب تحريف الألفاظ شر من هؤلاء من وجه وهؤلاء شر من وجه ، فإن أولئك عدلوا باللفظ والمعنى جميعا عما هما عليه أفسدوا اللفظ والمعنى ، وهؤلاء أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله فكانوا خيرا من أولئك من هذا الوجه ، ولكن أولئك لما أرادوا المعنى الباطل حرفوا له لفظا يصلح له لئلا يتنافر اللفظ والمعنى ، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ المحرف فهم منه المعنى المحرف ، فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء اللفظ على حاله مما لا سبيل إليه ، فبدءوا بتحريف اللفظ ليستقيم لهم حكمهم على المعنى الذي قصدوا .
الوجه التاسع والثلاثون : أن استواء الرب المعدى بأداة " على " المعلق بعرشه المعرف باللام المعطوف بثم على خلق السماوات والأرض المطرد في موارده على أسلوب واحد ونمط واحد ، لا يحتمل إلا معنى واحدا لا يحتمل معنيين البتة ، فضلا عن ثلاثة أو خمسة عشر كما قال صاحب ( القواصم والعواصم ) إذا قال لك المجسم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرحمن على العرش استوى ) فقل : استوى على العرش يستعمل على خمسة عشر وجها فأيها تريد ؟
فيقال له : كلا والذي استوى على العرش لا يحتمل هذا اللفظ معنيين البتة ، والمدعي الاحتمال عليه بيان الدليل ، إذ الأصل عدم الاشتراك والمجاز ، ولم يذكر على دعواه دليلا ولا بين الوجوه المحتملة حتى يصلح قوله " فأيها تريدون وأيها تعنون " وكان ينبغي له أن يبين كل احتمال ويذكر الدليل على ثبوته ، ثم يطالب حزب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتعيين أحد الاحتمالات ، وإلا فهم يقولون : لا نسلم احتماله لغير معنى
[ ص: 388 ] واحد ، فإن الأصل في الكلام الإفراد والحقيقة ، دون الاشتراك والمجاز فهم في منعهم أولى بالصواب منك في تعدد الاحتمال ، فدعواك أن هذا اللفظ يحتمل خمسة عشر معنى دعوى مجردة ليست معلومة بضرورة ولا نص ولا إجماع ، يوضحه :
الوجه الأربعون : وهو أن يقال : الاحتمالات التي ادعيتها تتطرق إلى لفظ الاستواء وحده المجرد عن اتصاله بأداة أم إلى المقترن بواو المصاحبة أم إلى المقترن بإلى أم إلى المقترن بعلى ، أم إلى كل واحد من ذلك ، وكذلك العرش الذي ادعيت أنه يحتمل عدة معان هو العرش المنكر غير المعرف بأداة تعريف ولا إضافة أم المضاف إلى العبد كقول
عمر :
كاد عرشي أن يهد ، أم إلى عرش الدار
وهو سقفها في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259خاوية على عروشها ) أم إلى عرش الرب تبارك وتعالى الذي هو فوق سماواته ؟ أم إلى كل واحد من ذلك ، فأين مواد الاحتمال حتى يعلم هل صحيحة أم باطلة ، فلا يمكنك أن تدعي ذلك في موضع معين من هذه المواضع ، ودعواه بهت صريح ، وغاية ما تقدر عليه أنك تدعي مجموع الاحتمالات في مجموع المواضع بحيث يكون كل موضع له معنى ، فأي شيء ينفعك هذا في الموضع المعين ، فسبحان الله ! أين هذا من القول السديد الذي أوصانا الله به في كتابه حيث يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=70ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) والسديد هو الذي يسد موضعه ويطابقه فلا يزيد عليه ولا ينقص منه ، وسداد السهم هو مطابقته وإصابته الغرض من غير علو ولا انحطاط ولا تيامن ولا تياسر .
والمقصود : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28727استواء الرب على عرشه المختص به الموصول بأداة على نص في معناه لا يحتمل سواه .
الوجه الحادي والأربعون : أنا نمنع الاحتمال في نفس الاستواء مع قطع النظر عن صلاته المقرون بها وأنه ليس له إلا معنى واحد وإن تنوع بتنوع صلاته ، كنظائره من الأفعال التي تنوع معانيها بتنوع صلاتها كملت عنه وملت إليه ورغبت عنه ورغبت فيه ، وعدلت عنه وعدلت إليه ، وفررت منه وفررت إليه ، فهـذا لا يقال له مشترك ولا مجاز ، بل حقيقة واحدة تنوعت دلالتها بتنوع صلاتها ، وهكذا لفظ الاستواء هو بمعنى الاعتدال حيث استعمل مجردا أو مقرونا ، تقول : سويته فاستوى ، كما يقال : عدلته
[ ص: 389 ] فاعتدل ، فهو مطاوع الفعل المتعدي ، وهذا المعنى عام في جميع موارد استعماله في اللغة ، ومنه استوى إلى السطح أي ارتفع في اعتدال ، ومنه استوى على ظهر الدابة أي اعتدل عليها ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=13لتستووا على ظهوره ) وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استوى على راحلته فهو يتضمن اعتدالا واستقرارا عند تجرده ويتضمن المقرون مع ذلك معنى العلو والارتفاع ، وهذا حقيقة واحدة تتنوع بتنوع قيودها كما تتنوع دلالة الفعل بحسب مفعولاته وصلاته ، وما يصاحبه من أداة نفي أو استفهام أو نهي أو إغراء فيكون له عند كل أمر من هذه الأمور دلالة خاصة والحقيقة واحدة .
فهذا هو التحقيق لا الترويج والتزويق ، وادعاء خمسة عشر معنى لما ليس له إلا معنى واحد ، وهذا شأن جميع الألفاظ المطلقة إذا قيدت فإنها تتنوع دلالتها بحسب قيودها ولا يخرجها ذلك من حقائقها ( فضرب ) مع المثل له معنى وفي الأرض له معنى والبحر له معنى والدابة لها معنى ، إذ هو إمساس بإيلام ، فإن صاحبته أداة النفي صار له معنى آخر ، وإن كانت أداة استفهام أو نهي أو تمن أو تخصيص اختلفت دلالته ، وحقيقته واحدة في كل وضع يقترن به ما يبين المراد .
فإذا قال قائل في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=34واهجروهن في المضاجع واضربوهن ) أن الضرب له عدة معان فأيها المراد كان كالنظائر قول هذا القائل : إن الرحمن على العرش استوى له خمسة عشر وجها ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن في الوجه الأول يتبين أن مجموع اللفظ وصلته يدلان على غير ما دل عليه اللفظ مع الصلة الأخرى ، وفي هذا الوجه يتبين أن مطلق اللفظ يدل على المعنى المشترك وأن اختصاصه في محاله هو من اقترانه بتلك الصلة ولا منافاة بينهما ، فالتركيب يحدث للمركب حالة أخرى سواء كان المركب من المعاني أو من الألفاظ أو الأعيان أو الصفات مخلوقها ومصنوعها .
فعلى هذا إذا اقترن استوى بحرف الاستعلاء دل على الاعتدال بلفظ الفعل وعلى العلو بالحرف الذي وصل به ، فإن اقترن بالواو دل على الاعتدال بنفسه وعلى معادلته بعد الواو بواسطتها ، وإذا اقترن بحرف الغاية دل على الاعتدال بلفظه وعلى الارتفاع قاصدا لما بعد حرف الغاية بواسطتها ، وزال بحمد الله الاشتراك والمجاز ووضح المعنى وأسفر صبحه وليس الفاضل من يأتي إلى الواضح فيعقده ويعميه ، بل من
[ ص: 390 ] يأتي إلى المشكل فيوضحه ويبينه ، ومن الله سبحانه وتعالى البيان وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا التسليم .
ونحن نشهد أن الله قد بين غاية البيان الذي لا بيان فوقه ، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين فبلغ المعاني كما بلغ الألفاظ والصحابة بلغوا عنه الأمرين جميعا ، وكان تبليغه للمعاني أهم من تبليغه للألفاظ ولهذا اشترك الصحابة في فهمها ، وأما حفظ القرآن فكان في بعضهم ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14510أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا
الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان nindex.php?page=showalam&ids=10وعبد الله بن مسعود أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل جميعا .
وهذه الآثار المحفوظة عن الصحابة والتابعين كلها متفقة على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28727الله نفسه فوق عرشه ، وقال أئمة السنة : بذاته فوق عرشه وأن ذلك حقيقة لا مجاز وأكثر من صرح أئمة المالكية كما تقدم حكاية ألفاظهم .
الوجه الثاني والأربعون : أنا لو فرضنا احتمال اللفظ في اللغة لمعنى الاستيلاء والخمسة عشر معنى ، فالله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد عين بكلامه منها معنى واحدا ونوع الدلالة عليه أعظم تنويع حتى يقال بذلك ألف دليل ، فالصحابة كلهم متفقون لا يختلفون في ذلك المعنى ولا التابعون وأئمة الإسلام ، ولم يقل أحد منهم إنه بمعنى استولى وأنه مجاز ، فلا يضر الاحتمال بعد ذلك في اللغة لو كان حقا ، ولماسئل
مالك nindex.php?page=showalam&ids=16008وسفيان بن عيينة وقبلهما
nindex.php?page=showalam&ids=15885ربيعة بن عبد الرحمن عن الاستواء فقالوا : الاستواء معلوم ، تلقى ذلك عنهم جميع أئمة الإسلام ولم يقل أحد منهم إنه يحتاج إلى صرفه عن حقيقته إلى مجازه ولا أنه مجمل له مع العرش خمسة عشر معنى ، وقد حرف بعضهم كلام هؤلاء الأئمة على عادته فقال معناه الاستواء معلوم لله ، فنسبوا السائل إلى أنه كان يشك هل يعلم الله استواء نفسه أو لا يعلمه ، ولما رأى بعضهم فساد هذا التأويل قال : إنما أراد به أن ورود لفظه في القرآن معلوم ، فنسبوا السائل والمجيب إلى اللغة فكأن السائل لم يكن يعلم أن هذا اللفظ في القرآن ، وقد قال يا
أبا عبد الله (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فلم يقل هل هذا اللفظ في القرآن أو لا ؟ ونسبوا المجيب إلى أنه أجابه بما يعلمه الصبيان في المكاتب ولا يجهله أحد ، ولا هو مما يحتاج إلى السؤال عنه ولا استشكله السائل ، ولا خطر بقلب المجيب أنه يسأل عنه ، والله تعالى أعلم .
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ ظَاهِرَ
nindex.php?page=treesubj&link=28727الِاسْتِوَاءِ وَحَقِيقَتَهُ هُوَ الْعُلُوُّ وَالِارْتِفَاعُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَقْبُولِ ، وَقَدْ صَرَّحَ
nindex.php?page=treesubj&link=29639الْمُنْكِرُونَ لِلِاسْتِوَاءِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ وَيَعْنِي بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ ، وَهَذَا لَفْظُهُ " لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِشَيْءٍ وَيَعْنِي بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ " وَالْخِلَافُ مَعَ
الْمُرْجِئَةِ ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَبَثٌ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ ، وَالَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَى
الْمُرْجِئَةِ يَحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ وَهُوَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِشَيْءٍ وَيُرِيدَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ إِلَّا وَفِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِيقَاعُ الْأَوَّلِ فِي اللَّبْسِ وَاعْتِقَادِ الْخَطَأِ بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَعَ ظَاهِرِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي إِرَادَةَ غَيْرِهِ ، فَدَعْوَى إِرَادَةِ غَيْرِ الظَّاهِرِ حِينَئِذٍ مُمْتَنَعٌ مِنَ الْوَجْهَيْنِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْمَجَازِ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إِلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ تُرْفَعُ إِلَيْهِ الْأَيْدِي وَيَصْعَدُ إِلَيْهِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ، وَيَنْزِلُ الْوَحْيُ مِنْ عِنْدِهِ وَيَقِفُ الْعِبَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَا عُرِجَ بِرَسُولِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً ، وَلَا رُفِعَ
الْمَسِيحُ إِلَيْهِ حَقِيقَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ أَحَدُنَا بِإِصْبَعِهِ إِلَى فَوْقَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : أَيْنَ هُوَ كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ مَنْ يَقُولُ : أَيْنَ وَيُقِرُّهُ عَلَيْهِ ، كَمَا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّائِلِ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ عَيَانًا فَوْقَهُمْ وَلَا لَهُ حِجَابٌ حَقِيقَةً يَحْتَجِبُ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ ، وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَبْعُدُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَنِسْبَتُهُ مِنْ فَوْقِ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا إِلَى الْقُرْبِ مِنْهُ كَنِسْبَةِ مَنْ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ ، كُلُّهَا فِي الْقُرْبِ مِنْ ذَاتِهِ سَوَاءٌ ، فَهَذَا حَقِيقَةُ هَذَا الْمَجَازِ وَحَاصِلُهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَشَدُّ مُنَاقَضَةً لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْهُ لِلْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ ، فَيَكُونُ مِنْ أَبَطَلِ الْبَاطِلِ .
[ ص: 387 ] الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ ، وَالتَّحْرِيفُ نَوْعَانِ : تَحْرِيفُ اللَّفْظِ ، وَتَحْرِيفُ الْمَعْنَى ، فَتَحْرِيفُ اللَّفْظِ : الْعُدُولُ بِهِ عَنْ جِهَتِهِ إِلَى غَيْرِهَا ، إِمَّا بِزِيَادَةٍ وَإِمَّا بِنُقْصَانٍ وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ حَرَكَةٍ إِعْرَابِيَّةٍ ، وَإِمَّا غَيْرِ إِعْرَابِيَّةٍ ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ ، وَقَدْ سَلَكَ فِيهَا
الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ ، فَإِنَّهُمْ حَرَّفُوا نُصُوصَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ ، وَإِنْ كَانَ
الرَّافِضَةُ حَرَّفُوا كَثِيرًا مِنْ لَفْظِهِ ، وَادَّعَوْا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ غَيَّرُوهُ عَنْ وَجْهِهِ .
وَأَمَّا تَحْرِيفُ الْمَعْنَى فَهَذَا الَّذِي جَالُوا وَصَالُوا وَتَوَسَّعُوا وَسَمَّوْهُ تَأْوِيلًا ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ فَاسِدٌ حَادِثٌ لَمْ يُعْهَدْ بِهِ اسْتِعْمَالٌ فِي اللُّغَةِ ، وَهُوَ الْعُدُولُ بِالْمَعْنَى عَنْ وَجْهِهِ وَحَقِيقَتِهِ ، وَإِعْطَاءُ اللَّفْظِ مَعْنَى لَفْظٍ آخَرَ بِقَدْرٍ مَا مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا ، وَأَصْحَابُ تَحْرِيفِ الْأَلْفَاظِ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنَّ أُولَئِكَ عَدَلُوا بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا عَمَّا هُمَا عَلَيْهِ أَفْسَدُوا اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى ، وَهَؤُلَاءِ أَفْسَدُوا الْمَعْنَى وَتَرَكُوا اللَّفْظَ عَلَى حَالِهِ فَكَانُوا خَيْرًا مِنْ أُولَئِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَكِنَّ أُولَئِكَ لَمَّا أَرَادُوا الْمَعْنَى الْبَاطِلَ حَرَّفُوا لَهُ لَفْظًا يَصْلُحُ لَهُ لِئَلَّا يَتَنَافَرَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى ، بِحَيْثُ إِذَا أُطْلِقَ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُحَرَّفُ فُهِمَ مِنْهُ الْمَعْنَى الْمُحَرَّفُ ، فَإِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعُدُولَ بِالْمَعْنَى عَنْ وَجْهِهِ وَحَقِيقَتِهِ مَعَ بَقَاءِ اللَّفْظِ عَلَى حَالِهِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ ، فَبَدَءُوا بِتَحْرِيفِ اللَّفْظِ لِيَسْتَقِيمَ لَهُمْ حُكْمُهُمْ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوا .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ اسْتِوَاءَ الرَّبِّ الْمُعَدَّى بِأَدَاةِ " عَلَى " الْمُعَلَّقَ بِعَرْشِهِ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ الْمَعْطُوفَ بِثُمَّ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُطَّرِدَ فِي مَوَارِدِهِ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ وَنَمَطٍ وَاحِدٍ ، لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ الْبَتَّةَ ، فَضْلًا عَنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا قَالَ صَاحِبُ ( الْقَوَاصِمِ وَالْعَوَاصِمِ ) إِذَا قَالَ لَكَ الْمُجَسِّمُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) فَقُلِ : اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُسْتَعْمَلُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا فَأَيُّهَا تُرِيدُ ؟
فَيُقَالُ لَهُ : كَلَّا وَالَّذِي اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا اللَّفْظُ مَعْنَيَيْنِ الْبَتَّةَ ، وَالْمُدَّعِي الِاحْتِمَالَ عَلَيْهِ بَيَانُ الدَّلِيلِ ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَى دَعْوَاهُ دَلِيلًا وَلَا بَيْنَ الْوُجُوهِ الْمُحْتَمَلَةِ حَتَّى يَصْلُحَ قَوْلُهُ " فَأَيُّهَا تُرِيدُونَ وَأَيُّهَا تَعْنُونَ " وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ كُلَّ احْتِمَالٍ وَيَذْكُرَ الدَّلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ ، ثُمَّ يُطَالِبُ حِزْبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَعْيِينِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ ، وَإِلَّا فَهُمْ يَقُولُونَ : لَا نُسَلِّمُ احْتِمَالَهُ لِغَيْرِ مَعْنًى
[ ص: 388 ] وَاحِدٍ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْإِفْرَادُ وَالْحَقِيقَةُ ، دُونَ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ فَهُمْ فِي مَنْعِهِمْ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْكَ فِي تَعَدُّدِ الِاحْتِمَالِ ، فَدَعْوَاكَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى دَعْوًى مُجَرَّدَةٌ لَيْسَتْ مَعْلُومَةً بِضَرُورَةٍ وَلَا نَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ ، يُوَضِّحُهُ :
الْوَجْهُ الْأَرْبَعُونَ : وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : الِاحْتِمَالَاتُ الَّتِي ادَّعَيْتَهَا تَتَطَرَّقُ إِلَى لَفْظِ الِاسْتِوَاءِ وَحْدَهُ الْمُجَرَّدِ عَنِ اتِّصَالِهِ بِأَدَاةٍ أَمْ إِلَى الْمُقْتَرِنِ بِوَاوِ الْمُصَاحَبَةِ أَمْ إِلَى الْمُقْتَرِنِ بِإِلَى أَمْ إِلَى الْمُقْتَرِنِ بِعَلَى ، أَمْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْعَرْشُ الَّذِي ادَّعَيْتَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ هُوَ الْعَرْشُ الْمُنَكَّرُ غَيْرُ الْمُعَرَّفِ بِأَدَاةِ تَعْرِيفٍ وَلَا إِضَافَةٍ أَمِ الْمُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ كَقَوْلِ
عُمَرَ :
كَادَ عَرْشِي أَنْ يُهَدَّ ، أَمْ إِلَى عَرْشِ الدَّارِ
وَهُوَ سَقْفُهَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=259خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) أَمْ إِلَى عَرْشِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي هُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ ؟ أَمْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَيْنَ مَوَادُّ الِاحْتِمَالِ حَتَّى يُعْلَمَ هَلْ صَحِيحَةٌ أَمْ بَاطِلَةٌ ، فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَدَّعِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، وَدَعْوَاهُ بُهْتٌ صَرِيحٌ ، وَغَايَةُ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ أَنَّكَ تَدَّعِي مَجْمُوعَ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَجْمُوعِ الْمَوَاضِعِ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ مَعْنًى ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَنْفَعُكَ هَذَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ ! أَيْنَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ السَّدِيدِ الَّذِي أَوْصَانَا اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=70يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) وَالسَّدِيدُ هُوَ الَّذِي يَسُدُّ مَوْضِعَهُ وَيُطَابِقُهُ فَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ ، وَسَدَادُ السَّهْمِ هُوَ مُطَابَقَتُهُ وَإِصَابَتُهُ الْغَرَضَ مِنْ غَيْرِ عُلُوٍّ وَلَا انْحِطَاطٍ وَلَا تَيَامُنٍ وَلَا تَيَاسُرٍ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28727اسْتِوَاءَ الرَّبِّ عَلَى عَرْشِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ الْمَوْصُولَ بِأَدَاةٍ عَلَى نَصٍّ فِي مَعْنَاهُ لَا يَحْتَمِلُ سِوَاهُ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّا نَمْنَعُ الِاحْتِمَالَ فِي نَفْسِ الِاسْتِوَاءِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِلَاتِهِ الْمَقْرُونِ بِهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَ بِتَنَوُّعِ صِلَاتِهِ ، كَنَظَائِرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُنَوَّعُ مَعَانِيهَا بِتَنَوُّعِ صِلَاتِهَا كَمِلْتُ عَنْهُ وَمِلْتُ إِلَيْهِ وَرَغِبْتُ عَنْهُ وَرَغِبْتُ فِيهِ ، وَعَدَلْتُ عَنْهُ وَعَدَلْتُ إِلَيْهِ ، وَفَرَرْتَ مِنْهُ وَفَرَرْتُ إِلَيْهِ ، فَهَـذَا لَا يُقَالُ لَهُ مُشْتَرَكٌ وَلَا مَجَازٌ ، بَلْ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ تَنَوَّعَتْ دَلَالَتُهَا بِتَنَوُّعِ صِلَاتِهَا ، وَهَكَذَا لَفْظُ الِاسْتِوَاءِ هُوَ بِمَعْنَى الِاعْتِدَالِ حَيْثُ اسْتُعْمِلَ مُجَرَّدًا أَوْ مَقْرُونًا ، تَقُولُ : سَوَّيْتُهُ فَاسْتَوَى ، كَمَا يُقَالُ : عَدَلْتُهُ
[ ص: 389 ] فَاعْتَدَلَ ، فَهُوَ مُطَاوِعُ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي ، وَهَذَا الْمَعْنَى عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ فِي اللُّغَةِ ، وَمِنْهُ اسْتَوَى إِلَى السَّطْحِ أَيِ ارْتَفَعَ فِي اعْتِدَالٍ ، وَمِنْهُ اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَيِ اعْتَدَلَ عَلَيْهَا ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=13لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ) وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ اعْتِدَالًا وَاسْتِقْرَارًا عِنْدَ تَجَرُّدِهِ وَيَتَضَمَّنُ الْمَقْرُونُ مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ ، وَهَذَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ قُيُودِهَا كَمَا تَتَنَوَّعُ دَلَالَةُ الْفِعْلِ بِحَسَبِ مَفْعُولَاتِهِ وَصِلَاتِهِ ، وَمَا يُصَاحِبُهُ مِنْ أَدَاةِ نَفْيٍ أَوِ اسْتِفْهَامٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ إِغْرَاءٍ فَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ دَلَالَةٌ خَاصَّةٌ وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ .
فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ لَا التَّرْوِيجُ وَالتَّزْوِيقُ ، وَادِّعَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى لِمَا لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ ، وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ إِذَا قُيِّدَتْ فَإِنَّهَا تَتَنَوَّعُ دَلَالَتُهَا بِحَسَبِ قُيُودِهَا وَلَا يُخْرِجُهَا ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِهَا ( فَضَرَبَ ) مَعَ الْمَثَلِ لَهُ مَعْنًى وَفِي الْأَرْضِ لَهُ مَعْنًى وَالْبَحْرُ لَهُ مَعْنًى وَالدَّابَّةُ لَهَا مَعْنًى ، إِذْ هُوَ إِمْسَاسٌ بِإِيلَامٍ ، فَإِنْ صَاحَبَتْهُ أَدَاةُ النَّفْيِ صَارَ لَهُ مَعْنًى آخَرَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَدَاةُ اسْتِفْهَامٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ تَمَنٍّ أَوْ تَخْصِيصٍ اخْتَلَفَتْ دَلَالَتُهُ ، وَحَقِيقَتُهُ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ وَضْعٍ يَقْتَرِنُ بِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ .
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=34وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ) أَنَّ الضَّرْبَ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ فَأَيُّهَا الْمُرَادُ كَانَ كَالنَّظَائِرِ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ : إِنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَالَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَجْمُوعَ اللَّفْظِ وَصِلَتِهِ يَدُلَّانِ عَلَى غَيْرِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مَعَ الصِّلَةِ الْأُخْرَى ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ وَأَنَّ اخْتِصَاصَهُ فِي مَحَالِّهِ هُوَ مِنَ اقْتِرَانِهِ بِتِلْكَ الصِّلَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ، فَالتَّرْكِيبُ يُحْدِثُ لِلْمُرَكَّبِ حَالَةً أُخْرَى سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَعَانِي أَوْ مِنَ الْأَلْفَاظِ أَوِ الْأَعْيَانِ أَوِ الصِّفَاتِ مَخْلُوقُهَا وَمَصْنُوعُهَا .
فَعَلَى هَذَا إِذَا اقْتَرَنَ اسْتَوَى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ دَلَّ عَلَى الِاعْتِدَالِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَعَلَى الْعُلُوِّ بِالْحَرْفِ الَّذِي وُصِلَ بِهِ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْوَاوِ دَلَّ عَلَى الِاعْتِدَالِ بِنَفْسِهِ وَعَلَى مُعَادَلَتِهِ بَعْدَ الْوَاوِ بِوَاسِطَتِهَا ، وَإِذَا اقْتَرَنَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ دَلَّ عَلَى الِاعْتِدَالِ بِلَفْظِهِ وَعَلَى الِارْتِفَاعِ قَاصِدًا لِمَا بَعْدَ حَرْفِ الْغَايَةِ بِوَاسِطَتِهَا ، وَزَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ وَوَضَحَ الْمَعْنَى وَأَسْفَرَ صُبْحُهُ وَلَيْسَ الْفَاضِلُ مَنْ يَأْتِي إِلَى الْوَاضِحِ فَيُعَقِّدُهُ وَيُعَمِّيهِ ، بَلْ مَنْ
[ ص: 390 ] يَأْتِي إِلَى الْمُشْكِلِ فَيُوَضِّحُهُ وَيُبَيِّنُهُ ، وَمِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْبَيَانُ وَعَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ .
وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ غَايَةَ الْبَيَانِ الَّذِي لَا بَيَانَ فَوْقَهُ ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ فَبَلَّغَ الْمَعَانِيَ كَمَا بَلَّغَ الْأَلْفَاظَ وَالصَّحَابَةُ بَلَّغُوا عَنْهُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، وَكَانَ تَبْلِيغُهُ لِلْمَعَانِي أَهَمَّ مِنْ تَبْلِيغِهِ لِلْأَلْفَاظِ وَلِهَذَا اشْتَرَكَ الصَّحَابَةُ فِي فَهْمِهَا ، وَأَمَّا حِفْظُ الْقُرْآنِ فَكَانَ فِي بَعْضِهِمْ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14510أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ : حَدَّثَنَا
الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ كَعُثْمَانَ nindex.php?page=showalam&ids=10وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا .
وَهَذِهِ الْآثَارُ الْمَحْفُوظَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28727اللَّهَ نَفْسَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ ، وَقَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ : بِذَاتِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ وَأَكْثَرُ مَنْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ أَلْفَاظِهِمْ .
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا احْتِمَالَ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ لِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى ، فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَيَّنَ بِكَلَامِهِ مِنْهَا مَعْنًى وَاحِدًا وَنَوَّعَ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ تَنْوِيعٍ حَتَّى يُقَالَ بِذَلِكَ أَلْفُ دَلِيلٍ ، فَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا التَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِنَّهُ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى وَأَنَّهُ مَجَازٌ ، فَلَا يَضُرُّ الِاحْتِمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ لَوْ كَانَ حَقًّا ، وَلَمَّاسُئِلَ
مَالِكٌ nindex.php?page=showalam&ids=16008وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَقَبْلَهُمَا
nindex.php?page=showalam&ids=15885رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ فَقَالُوا : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ ، تَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى صَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ وَلَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَهُ مَعَ الْعَرْشِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى ، وَقَدْ حَرَّفَ بَعْضُهُمْ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ عَلَى عَادَتِهِ فَقَالَ مَعْنَاهُ الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ ، فَنَسَبُوا السَّائِلَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يَشُكُّ هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ اسْتِوَاءَ نَفْسِهِ أَوْ لَا يَعْلَمُهُ ، وَلَمَّا رَأَى بَعْضُهُمْ فَسَادَ هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ : إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ وُرُودَ لَفْظِهِ فِي الْقُرْآنِ مَعْلُومٌ ، فَنَسَبُوا السَّائِلَ وَالْمُجِيبَ إِلَى اللُّغَةِ فَكَأَنَّ السَّائِلَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْقُرْآنِ ، وَقَدْ قَالَ يَا
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَلَمْ يَقُلْ هَلْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لَا ؟ وَنَسَبُوا الْمُجِيبَ إِلَى أَنَّهُ أَجَابَهُ بِمَا يَعْلَمُهُ الصِّبْيَانُ فِي الْمَكَاتِبِ وَلَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ ، وَلَا هُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَالِ عَنْهُ وَلَا اسْتَشْكَلَهُ السَّائِلُ ، وَلَا خَطَرَ بِقَلْبِ الْمُجِيبِ أَنَّهُ يُسْأَلُ عَنْهُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .