الوجه الحادي والثلاثون : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29616معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ
أبي مرة ، فهو أمل من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه ، فإنه سبحانه لما أمره بالسجود
لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين جملتين : إحداهما : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أنا خير منه ) فهذه هي الصغرى ، والكبرى محذوفة تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول ، وذلك سند المقدمة الأولى ، وهو أيضا قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خلقتني من نار وخلقته من طين ) المقدمة الثانية كلها معلومة ، أي : ومن خلق من نار خير ممن خلق من طين ، فهما قياسان متداخلان ، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة ، فالقياس الأول هكذا : أنا خير منه ، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه ، وهذا من الشكل الأول ، والقياس الثاني هكذا : خلقتني من نار وخلقته من طين ، والمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين ، فنتيجة هذا القياس العقلي : أنا خير منه ، ونتيجة الأول : فلا ينبغي أن أسجد له ، وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم التي عارضوا بها الوحي ، والكل باطل .
[ ص: 157 ] وقد اعتذر أتباع الشيخ
أبي مرة بأعذار : منها : أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل ، ومنها : أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34اسجدوا ) لا عموم له ، فإن الضمائر ليست من صيغ العموم ، ومنها : أنه وإن كان اللفظ عاما فإنه خصه بالقياس المذكور ، ومنها : أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب بل حمله على الاستحباب لأنه المتيقن ، أو على الرجحان دفعا للاشتراك والمجاز ، ومنها : أنه حمله على التراخي ولم يحمله على الفور ، ومنها : أنه صان جناب الرب أن يسجد لغيره ، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه .
وبالله تأمل هذه التأويلات ، وقابل بينها وبين كثير من التأويلات التي يذكرها كثير من الناس ، وفي بني
آدم من يصوب رأي إبليس وقياسه ، ولهم في ذلك تصانيف ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=15529بشار ابن الشاعر الأعمى على هذا المذهب ، ولهذا يقول في قصيدته :
الأرض مظلمة سوداء معتمة والنار معبودة مذ كانت النار
ولما علم الشيخ أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل ، وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضاته بالمعقول أوحى إلى تلاميذه وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارضون بها الوحي ، وأوهم أصحابه أنها قواطع عقلية ، وقال : إن قدمتم النقل عليها فسدت عقولكم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=121وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=112وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=113ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=115وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=116وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=117إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )
[ ص: 158 ] الوجه الثاني والثلاثون : في بيان فساد معقول الشيخ الذي عارض به بالوحي وذلك من وجوه :
أحدها : أنه قياس في مقابلة النص ، والقياس إذا صادم النص وقابله كان قياسا باطلا ، ويسمى قياسا إبليسيا ، فإنه يتضمن معارضة الحق بالباطل ، ولهذا كانت عقوبته أن أفسد عليه عقله ودنياه وآخرته ، وقد بينا فيما تقدم أنه ما عارض أحد الوحي بعقله إلا أفسد الله عليه عقله حتى يقول : ما يضحك العقلاء .
الثاني : أن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أنا خير منه ) كذب ، ومستنده في ذلك باطل ، فإنه لا يلزم من تفضيل مادة على مادة تفضيل المخلوق منها على المخلوق من الأخرى ، فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها ، وهذا من كمال قدرته ، فإن
محمدا صلى الله عليه وسلم
وإبراهيم وموسى وعيسى ونوحا والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، أفضل من الملائكة ، ومذهب أهل السنة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة ، وإن كانت مادتهم نورا ومادة البشر ترابا ، فالتفضيل ليس بالمواد والأصول ، ولهذا كان العبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خيرا وأفضل عند الله ممن ليس مثلهم من
قريش وبني هاشم .
وهذه المعارضة الإبليسية صارت ميراثا في أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى ، وهي التي أبطلها الله تعالى بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347216إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس مؤمن تقي ، وفاجر شقي " .
وقال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347217لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض [ ص: 159 ] على أسود ، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ، الناس من آدم وآدم من تراب " فانظر إلى سريان هذه النكتة الإبليسية في نفوس أكثر الناس من تفضيلهم بمجرد الأنساب والأصول .
الثالث : أن ظنه أن النار خير من التراب باطل ، مستنده ما فيها من الإضاءة والخفة ، وما في التراب من الثقل والظلمة ، ونسي الشيخ ما في النار من الطيش والخفة ، وطلب العلو ، والإفساد بالطبع ، حتى لو وقع منها شواظ بقدر الحبة في مدينة عظيمة لأفسدها كلها ومن فيها ، بل التراب خير من النار وأفضل من وجوه متعددة : منها : أن طبعه السكون والرزانة ، والنار بخلافه ، ومنها : أنه مادة الحيوان والنبات والأقوات ، والنار بخلافه ، ومنها : أنه لا يمكن لأحد أن يعيش بدونه ودون ما خلق منه البتة ، ويمكنه أن يعيش برهة بلا نار ، قالت
عائشة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347218كان يمر بنا الشهر والشهران ما يوقد في بيوتنا نار ولا نرى نارا " قال لها عروة : فما عيشكم ؟ قالت : " الأسودان : التمر والماء " ومنها : أن الأرض تؤدي إليك بما فيها من البركة أضعاف أضعاف ما تودعه من الحب والنوى ، وتربيه لك وتغذيه وتنميه ، والنار تفسده عليك وتمحق بركته ، ومنها : أن الأرض مهبط وحي الله ومسكن رسله وأنبيائه وأوليائه ، وكفاتهم أحياء وأمواتا ، والنار مسكن أعدائه ومأواهم ، ومنها : أن في الأرض بيته الذي جعله إماما للناس وقياما لهم ، وجعل حجه محطا لأوزارهم ، ومكفرا لسيئاتهم ، وجالبا لهم مصالح معاشهم ومعادهم ، ومنها : أن النار طبعها العلو والفساد ، والله لا يحب المستكبرين ولا يحب المفسدين ، والأرض طبعها الخشوع والإخبات ، والله يحب المخبتين الخاشعين .
وقد ظهر بخلق
إبراهيم ومحمد وموسى وعيسى والرسل من المادة الأرضية ، وخلق إبليس وجنوده من المادة النارية ، نعم وخلق من المادة الأرضية الكفار والمشركين ، ومن المادة النارية صالحو الجن ، ولكن ليس في هؤلاء مثل إبليس ، وليس في أولئك مثل الرسل ، فعلم الخير من المادة الأرضية ، وعلم الشر من المادة النارية .
[ ص: 160 ] ومنها : أن النار لا تقوم بنفسها بل لا بد لها من محل تقوم به لا تستغني عنه ، وهي محتاجة إلى المادة الترابية في قوامها وتأثيرها ، والأرض قائمة بنفسها لا تحتاج إلى محل تقوم به ، ولا تفتقر في قوامها ونفعها إلى النار ، ومنها : أن التراب يفسد صورة النار ويبطلها ويقهرها ، وإن علت عليه ، ومنها : أن الرحمة تنزل على الأرض فتقبلها وتحيا بها وتخرج زينتها وأقواتها وتشكر ربها ، وتنزل على النار فتأباها وتطفئها وتمحوها وتذهب بها ، فبينها وبين الرحمة معاداة ، وبين الأرض وبين الرحمة موالاة ، ومنها : أن النار تطفأ عند التكبير وتضمحل عند ذكر كبرياء الرب ، ولهذا يهرب المخلوق منها عند الأذان حتى لا يسمعه ، والأرض تبتهج بذلك وتفرح به وتشهد به لصاحبه يوم القيامة ، ويكفي في فضل المخلوق من الأرض أن الله تعالى خلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، فهل حصل للمخلوق من النار واحدة من هذه ؟ .
فقد تبين لك حال هذه المعارضة العقلية للسمع وفسادها من هذه الوجوه ، وأكثر منها ، وهي من شيخ القوم ورئيسهم ومعلمهم الأول ، فما الظن بمعارضة التلامذة ؟
ونحن نقول قولا نقدم بين يديه مشيئة الله وحوله والاعتراف بمنته علينا وفضله لدينا ، وإنه محض منته وجوده وفضله ، فهو المحمود أولا وآخرا على توفيقنا له وتعليمنا إياه :
إن كل شبهة من شبه أرباب المعقولات عارضوا بها الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من الوجوه التي أبطلنا بها معارضة شيخ القوم ، وإن مد الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابا كبيرا ، ولو نعلم أن في الأرض من يقول ذلك ، ويقوم به تبلغ إليه كباد الإبل اقتدينا في السير إليه
بموسى عليه السلام في سفره إلى الخضر ،
وبجابر بن عبد الله في سفره إلى
عبد الله بن أنيس لسماع حديث واحد ، ولكن زهد الناس في عالم قومه ; وقد قام قبلنا بهذا الأمر من برز على أهل الأرض في عصره وفي أعصار قبله فأدرك من قبله وحيدا ; وسبق من بعده سبقا بعيدا .
الوجه الثالث والثلاثون : أنه سبحانه وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء وأنه لا سمي له ولا كفء له ، وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه
[ ص: 161 ] المخلوقين ، واستحق بقيامها أن يكون (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) وهكذا كونه ليس له سمي ، أي : مثيل يساميه في صفاته وأفعاله ، ولا من يكافيه فيها ، ولو كان مسلوب الصفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين ، ومنفيا عنه مباينة العالم ومحايثته واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه ، وكونه يمنته أو يسرته ، أو أمامه أو وراءه ، لكان كل عدم مثلا له في ذلك ، فيكون قد نفى عن نفسه مماثلة الموجودات ، وأثبت لها مماثلة المعدومات ، فهذا النفي واقع على أكمل الموجودات وعلى العدم المحض ، فإن المحض لا مثل له ولا كفء ولا سمي ، فلو كان المراد نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من خلقه ، لكان ذلك وصفا له بغاية العدم ، فهذا النفي واقع على العدم المحض ، وعلى من كثرت أوصاف كماله حتى تفرد بذلك الكمال ، فلم يكن له شبيه في كماله ولا سمي ولا كفء .
فإذا أبطلتم هذا المعنى الصحيح تعين ذلك المعنى الباطل قطعا ، وصار المعنى أنه لا يوصف بصفة أصلا فلا يفعل فعلا ، ولا وجه له ، ولا يد ، ولا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يعلم ، ولا يقدر ، تحقيقا لمعنى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) وقال إخوانكم من الملاحدة : ليس له ذات أصلا ، تحقيقا لهذا النفي ، وقال غلاتهم : لا وجود له ، تحقيقا لهذا النفي ، وأما الرسل وأتباعهم فإنهم قالوا : إن الله حي وله حياة ، وليس كمثله شيء في حياته ، وهو قوي وله القوة وليس كمثله شيء في قوته (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11وهو السميع البصير ) يسمع ويبصر ، وليس كمثله شيء في سمعه وبصره ، ومتكلم ، وله يدان ، ومستو على عرشه ، وليس له في هذه الصفات مثل ، فهذا النفي لا يتحقق إلا بإثبات صفات الكمال ، فإنه مدح له وثناء أثنى به على نفسه ، والعدم المحض لا يمدح به أحد ولا يكون كمالا له ، بل هو أنقص النقص ، وإنما يكون كمالا إذا تضمن الإثبات كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255لا تأخذه سنة ولا نوم ) لكمال حياته وقيوميته ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) لكمال غناه وملكه وربوبيته ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وما ربك بظلام للعبيد ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49ولا يظلم ربك أحدا ) لكمال غناه وعدله ورحمته ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=38وما مسنا من لغوب ) لكمال قدرته ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=61وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء )
[ ص: 162 ] لكمال علمه ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لا تدركه الأبصار ) لعظمته وإحاطته بما سواه ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه واسع ; فيرى ولكن لا يحاط ربه إدراكا ; كما يعلم ولا يحاط به علما ، فيرى ولا يحاط به رؤية ، وهكذا (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَلَاثُونَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29616مُعَارَضَةَ الْوَحْيِ بِالْعَقْلِ مِيرَاثٌ عَنِ الشَّيْخِ
أَبِي مُرَّةَ ، فَهُوَ أَمَلُ مَنْ عَارَضَ السَّمْعَ بِالْعَقْلِ وَقَدَّمَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ عَارَضَ أَمْرَهُ بِقِيَاسٍ عَقْلِيٍّ مُرَكَّبٍ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ جُمْلَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) فَهَذِهِ هِيَ الصُّغْرَى ، وَالْكُبْرَى مَحْذُوفَةٌ تَقْدِيرُهَا : وَالْفَاضِلُ لَا يَسْجُدُ لِلْمَفْضُولِ ، وَذَلِكَ سَنَدُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى ، وَهُوَ أَيْضًا قِيَاسٌ حَمْلِيٌّ حُذِفَ إِحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ ، أَيْ : وَمَنْ خُلِقَ مِنْ نَارٍ خَيْرٌ مِمَّنْ خُلِقَ مِنْ طِينٍ ، فَهُمَا قِيَاسَانِ مُتَدَاخِلَانِ ، وَهَذِهِ يُسَمِّيهَا الْمَنْطِقِيُّونَ الْأَقْيِسَةَ الْمُتَدَاخِلَةَ ، فَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ هَكَذَا : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، وَخَيْرُ الْمَخْلُوقِينَ لَا يَسْجُدُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ ، وَهَذَا مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، وَالْقِيَاسُ الثَّانِي هَكَذَا : خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، وَالْمَخْلُوقُ مِنَ النَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْمَخْلُوقِ مِنَ الطِّينِ ، فَنَتِيجَةُ هَذَا الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، وَنَتِيجَةُ الْأَوَّلِ : فَلَا يَنْبَغِي أَنْ أَسْجُدَ لَهُ ، وَأَنْتَ إِذَا تَأَمَّلْتَ مَادَّةَ هَذَا الْقِيَاسِ وَصُورَتَهُ رَأَيْتَهُ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ قِيَاسَاتِهِمُ الَّتِي عَارَضُوا بِهَا الْوَحْيَ ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ .
[ ص: 157 ] وَقَدِ اعْتَذَرَ أَتْبَاعُ الشَّيْخِ
أَبِي مُرَّةَ بِأَعْذَارٍ : مِنْهَا : أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ قُدِّمَ الْعَقْلُ ، وَمِنْهَا : أَنَّ الْخِطَابَ بِصِيغَةِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=34اسْجُدُوا ) لَا عُمُومَ لَهُ ، فَإِنَّ الضَّمَائِرَ لَيْسَتْ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فَإِنَّهُ خَصَّهُ بِالْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بَلْ حَمَلَهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ ، أَوْ عَلَى الرُّجْحَانِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ صَانَ جَنَابَ الرَّبِّ أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِهِ ، وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ السُّجُودُ لِسِوَاهُ .
وَبِاللَّهِ تَأَمَّلْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَقَابِلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، وَفِي بَنِي
آدَمَ مَنْ يُصَوِّبُ رَأْيَ إِبْلِيسَ وَقِيَاسَهُ ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفُ ، وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=15529بَشَّارٌ ابْنُ الشَّاعِرِ الْأَعْمَى عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ، وَلِهَذَا يَقُولُ فِي قَصِيدَتِهِ :
الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ سَوْدَاءُ مُعْتِمَةٌ وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كَانَتِ النَّارُ
وَلَمَّا عَلِمَ الشَّيْخُ أَنَّهُ قَدْ أُصِيبَ مِنْ مُعَارَضَةِ الْوَحْيِ بِالْعَقْلِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْلَغُ فِي مُنَاقَضَةِ الْوَحْيِ وَالشَّرْعِ وَإِبْطَالِهِ مِنْ مُعَارَضَاتِهِ بِالْمَعْقُولِ أَوْحَى إِلَى تَلَامِيذِهِ وَإِخْوَانِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ الْخَيَالِيَّةِ مَا يُعَارِضُونَ بِهَا الْوَحْيَ ، وَأَوْهَمَ أَصْحَابَهُ أَنَّهَا قَوَاطِعُ عَقْلِيَّةٌ ، وَقَالَ : إِنْ قَدَّمْتُمُ النَّقْلَ عَلَيْهَا فَسَدَتْ عُقُولُكُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=121وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=112وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=113وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=114أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=115وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=116وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=117إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )
[ ص: 158 ] الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَلَاثُونَ : فِي بَيَانِ فَسَادِ مَعْقُولِ الشَّيْخِ الَّذِي عَارَضَ بِهِ بِالْوَحْيِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ ، وَالْقِيَاسُ إِذَا صَادَمَ النَّصَّ وَقَابَلَهُ كَانَ قِيَاسًا بَاطِلًا ، وَيُسَمَّى قِيَاسًا إِبْلِيسِيًّا ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مُعَارَضَةَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِ عَقْلَهُ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَا عَارَضَ أَحَدٌ الْوَحْيَ بِعَقْلِهِ إِلَّا أَفْسَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَقْلَهُ حَتَّى يَقُولَ : مَا يُضْحِكُ الْعُقَلَاءَ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) كَذِبٌ ، وَمُسْتَنَدُهُ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْضِيلِ مَادَّةٍ عَلَى مَادَّةٍ تَفْضِيلُ الْمَخْلُوقِ مِنْهَا عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنَ الْأُخْرَى ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مِنَ الْمَادَّةِ الْمَفْضُولَةِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِهَا ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ قُدْرَتِهِ ، فَإِنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَنُوحًا وَالرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ صَالِحِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَادَّتُهُمْ نُورًا وَمَادَّةُ الْبَشَرِ تُرَابًا ، فَالتَّفْضِيلُ لَيْسَ بِالْمَوَادِّ وَالْأُصُولِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْعَبِيدُ وَالْمَوَالِي الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ خَيْرًا وَأَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ مِنْ
قُرَيْشٍ وَبَنِي هَاشِمٍ .
وَهَذِهِ الْمُعَارَضَةُ الْإِبْلِيسِيَّةُ صَارَتْ مِيرَاثًا فِي أَتْبَاعِهِ فِي التَّقْدِيمِ بِالْأُصُولِ وَالْأَنْسَابِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى ، وَهِيَ الَّتِي أَبْطَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=13يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347216إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ ، النَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ " .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347217لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلَا لِأَبْيَضَ [ ص: 159 ] عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " فَانْظُرْ إِلَى سَرَيَانِ هَذِهِ النُّكْتَةِ الْإِبْلِيسِيَّةِ فِي نُفُوسِ أَكْثَرِ النَّاسِ مِنْ تَفْضِيلِهِمْ بِمُجَرَّدِ الْأَنْسَابِ وَالْأُصُولِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ ظَنَّهُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ التُّرَابِ بَاطِلٌ ، مُسْتَنَدُهُ مَا فِيهَا مِنَ الْإِضَاءَةِ وَالْخِفَّةِ ، وَمَا فِي التُّرَابِ مِنَ الثِّقَلِ وَالظُّلْمَةِ ، وَنَسِيَ الشَّيْخُ مَا فِي النَّارِ مِنَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ ، وَطَلَبِ الْعُلُوِّ ، وَالْإِفْسَادِ بِالطَّبْعِ ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ مِنْهَا شُوَاظٌ بِقَدْرِ الْحَبَّةِ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ لَأَفْسَدَهَا كُلَّهَا وَمَنْ فِيهَا ، بَلِ التُّرَابُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ وَأَفْضَلُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا : أَنَّ طَبْعَهُ السُّكُونُ وَالرَّزَانَةُ ، وَالنَّارُ بِخِلَافِهِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ مَادَّةُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَقْوَاتِ ، وَالنَّارُ بِخِلَافِهِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعِيشَ بِدُونَهُ وَدُونَ مَا خُلِقَ مِنْهُ الْبَتَّةَ ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ بُرْهَةً بِلَا نَارٍ ، قَالَتْ
عَائِشَةُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347218كَانَ يَمُرُّ بِنَا الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ مَا يُوقَدُ فِي بُيُوتِنَا نَارٌ وَلَا نَرَى نَارًا " قَالَ لَهَا عُرْوَةُ : فَمَا عَيْشُكُمْ ؟ قَالَتْ : " الْأَسْوَدَانِ : التَّمْرُ وَالْمَاءُ " وَمِنْهَا : أَنَّ الْأَرْضَ تُؤَدِّي إِلَيْكَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ أَضْعَافَ أَضْعَافَ مَا تُودَعُهُ مِنَ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، وَتُرَبِّيهِ لَكَ وَتُغَذِّيهِ وَتُنَمِّيهِ ، وَالنَّارُ تُفْسِدُهُ عَلَيْكَ وَتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ ، وَمِنْهَا : أَنَّ الْأَرْضَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَمَسْكَنُ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ ، وَكِفَاتُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ، وَالنَّارُ مَسْكَنُ أَعْدَائِهِ وَمَأْوَاهُمْ ، وَمِنْهَا : أَنَّ فِي الْأَرْضِ بَيْتَهُ الَّذِي جَعَلَهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ وَقِيَامًا لَهُمْ ، وَجَعَلَ حَجَّهُ مَحَطًّا لِأَوْزَارِهِمْ ، وَمُكَفِّرًا لِسَيِّئَاتِهِمْ ، وَجَالِبًا لَهُمْ مَصَالِحَ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ ، وَمِنْهَا : أَنَّ النَّارَ طَبْعُهَا الْعُلُوُّ وَالْفَسَادُ ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَلَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، وَالْأَرْضُ طَبْعُهَا الْخُشُوعُ وَالْإِخْبَاتُ ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُخْبِتِينَ الْخَاشِعِينَ .
وَقَدْ ظَهَرَ بِخَلْقِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالرُّسُلِ مِنَ الْمَادَّةِ الْأَرْضِيَّةِ ، وَخَلْقِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ مِنَ الْمَادَّةِ النَّارِيَّةِ ، نَعَمْ وَخَلَقَ مِنَ الْمَادَّةِ الْأَرْضِيَّةِ الْكُفَّارَ وَالْمُشْرِكِينَ ، وَمِنَ الْمَادَّةِ النَّارِيَّةِ صَالِحُو الْجِنِّ ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مِثْلُ إِبْلِيسَ ، وَلَيْسَ فِي أُولَئِكَ مِثْلُ الرُّسُلِ ، فَعُلِمَ الْخَيْرُ مِنَ الْمَادَّةِ الْأَرْضِيَّةِ ، وَعُلِمَ الشَّرُّ مِنَ الْمَادَّةِ النَّارِيَّةِ .
[ ص: 160 ] وَمِنْهَا : أَنَّ النَّارَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا بَلْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ تَقُومُ بِهِ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ ، وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى الْمَادَّةِ التُّرَابِيَّةِ فِي قِوَامِهَا وَتَأْثِيرِهَا ، وَالْأَرْضُ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى مَحَلٍّ تَقُومُ بِهِ ، وَلَا تَفْتَقِرُ فِي قِوَامِهَا وَنَفْعِهَا إِلَى النَّارِ ، وَمِنْهَا : أَنَّ التُّرَابَ يُفْسِدُ صُورَةَ النَّارِ وَيُبْطِلُهَا وَيَقْهَرُهَا ، وَإِنْ عَلَتْ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا : أَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ فَتَقْبَلُهَا وَتَحْيَا بِهَا وَتُخْرِجُ زِينَتَهَا وَأَقْوَاتَهَا وَتَشْكُرُ رَبَّهَا ، وَتَنْزِلُ عَلَى النَّارِ فَتَأْبَاهَا وَتُطْفِئُهَا وَتَمْحُوهَا وَتَذْهَبُ بِهَا ، فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ مُعَادَاةٌ ، وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ مُوَالَاةٌ ، وَمِنْهَا : أَنَّ النَّارَ تُطْفَأُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ وَتَضْمَحِلُّ عِنْدَ ذِكْرِ كِبْرِيَاءِ الرَّبِّ ، وَلِهَذَا يَهْرَبُ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا عِنْدَ الْأَذَانِ حَتَّى لَا يَسْمَعَهُ ، وَالْأَرْضُ تَبْتَهِجُ بِذَلِكَ وَتَفْرَحُ بِهِ وَتَشْهَدُ بِهِ لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَكْفِي فِي فَضْلِ الْمَخْلُوقِ مِنَ الْأَرْضِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، فَهَلْ حَصَلَ لِلْمَخْلُوقِ مِنَ النَّارِ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ ؟ .
فَقَدْ تَبَيَّنَ لَكَ حَالُ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ الْعَقْلِيَّةِ لِلسَّمْعِ وَفَسَادُهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، وَأَكْثَرِ مِنْهَا ، وَهِيَ مِنْ شَيْخِ الْقَوْمِ وَرَئِيسِهِمْ وَمُعَلِّمِهِمُ الْأَوَّلِ ، فَمَا الظَّنُّ بِمُعَارَضَةِ التَّلَامِذَةِ ؟
وَنَحْنُ نَقُولُ قَوْلًا نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ مَشِيئَةَ اللَّهِ وَحَوْلَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِمِنَّتِهِ عَلَيْنَا وَفَضْلَهُ لَدَيْنَا ، وَإِنَّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ وَجُودِهِ وَفَضْلِهِ ، فَهُوَ الْمَحْمُودُ أَوَّلًا وَآخِرًا عَلَى تَوْفِيقِنَا لَهُ وَتَعْلِيمِنَا إِيَّاهُ :
إِنَّ كُلَّ شُبْهَةٍ مِنْ شُبَهِ أَرْبَابِ الْمَعْقُولَاتِ عَارَضُوا بِهَا الْوَحْيَ فَعِنْدَنَا مَا يُبْطِلُهَا بِأَكْثَرِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي أَبْطَلْنَا بِهَا مُعَارَضَةَ شَيْخِ الْقَوْمِ ، وَإِنْ مَدَّ اللَّهُ فِي الْأَجَلِ أَفْرَدْنَا فِي ذَلِكَ كِتَابًا كَبِيرًا ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ ، وَيَقُومُ بِهِ تَبْلُغُ إِلَيْهِ كِبَادُ الْإِبِلِ اقْتَدَيْنَا فِي السَّيْرِ إِلَيْهِ
بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سَفَرِهِ إِلَى الْخَضِرِ ،
وَبِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي سَفَرِهِ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ لِسَمَاعِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ ، وَلَكِنْ زَهِدَ النَّاسُ فِي عَالِمِ قَوْمِهِ ; وَقَدْ قَامَ قَبْلَنَا بِهَذَا الْأَمْرِ مَنْ بَرَزَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فِي عَصْرِهِ وَفِي أَعْصَارٍ قَبْلَهُ فَأَدْرَكَ مَنْ قَبْلَهُ وَحِيدًا ; وَسَبَقَ مَنْ بَعْدَهُ سَبْقًا بَعِيدًا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالثَلَاثُونَ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ وَصْفَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي فَاتَ بِهَا شَبَهَ
[ ص: 161 ] الْمَخْلُوقِينَ ، وَاسْتَحَقَّ بِقِيَامِهَا أَنْ يَكُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وَهَكَذَا كَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ سَمِيٌّ ، أَيْ : مَثِيلٌ يُسَامِيهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ، وَلَا مَنْ يُكَافِيهِ فِيهَا ، وَلَوْ كَانَ مَسْلُوبَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ، وَمَنْفِيًّا عَنْهُ مُبَايَنَةُ الْعَالَمِ وَمُحَايَثَتُهُ وَاتِّصَالُهُ بِهِ وَانْفِصَالُهُ عَنْهُ وَعُلُوُّهُ عَلَيْهِ ، وَكَوْنُهُ يَمْنَتَهُ أَوْ يَسْرَتَهُ ، أَوْ أَمَامَهُ أَوْ وَرَاءَهُ ، لَكَانَ كُلُّ عَدَمٍ مِثْلًا لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَيَكُونُ قَدْ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ مُمَاثَلَةَ الْمَوْجُودَاتِ ، وَأَثْبَتَ لَهَا مُمَاثَلَةَ الْمَعْدُومَاتِ ، فَهَذَا النَّفْيُ وَاقِعٌ عَلَى أَكْمَلِ الْمَوْجُودَاتِ وَعَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ ، فَإِنَّ الْمَحْضَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا كُفْءَ وَلَا سَمِيَّ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَتَكَلُّمِهِ بِالْوَحْيِ وَتَكْلِيمِهِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ ، لَكَانَ ذَلِكَ وَصْفًا لَهُ بِغَايَةِ الْعَدَمِ ، فَهَذَا النَّفْيُ وَاقِعٌ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ ، وَعَلَى مَنْ كَثُرَتْ أَوْصَافُ كَمَالِهِ حَتَّى تَفَرَّدَ بِذَلِكَ الْكَمَالِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ فِي كَمَالِهِ وَلَا سَمِيٌّ وَلَا كُفْءٌ .
فَإِذَا أَبْطَلْتُمْ هَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيحَ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْبَاطِلَ قَطْعًا ، وَصَارَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِصِفَةٍ أَصْلًا فَلَا يَفْعَلُ فِعْلًا ، وَلَا وَجْهَ لَهُ ، وَلَا يَدَ ، وَلَا يَسْمَعُ ، وَلَا يُبْصِرُ ، وَلَا يَعْلَمُ ، وَلَا يَقْدِرُ ، تَحْقِيقًا لِمَعْنَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وَقَالَ إِخْوَانُكُمْ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ : لَيْسَ لَهُ ذَاتٌ أَصْلًا ، تَحْقِيقًا لِهَذَا النَّفْيِ ، وَقَالَ غُلَاتُهُمْ : لَا وُجُودَ لَهُ ، تَحْقِيقًا لِهَذَا النَّفْيِ ، وَأَمَّا الرُّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ حَيٌّ وَلَهُ حَيَاةٌ ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي حَيَاتِهِ ، وَهُوَ قَوِيٌّ وَلَهُ الْقُوَّةُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي قُوَّتِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ ، وَمُتَكَلِّمٌ ، وَلَهُ يَدَانِ ، وَمُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ مِثْلٌ ، فَهَذَا النَّفْيُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، فَإِنَّهُ مَدْحٌ لَهُ وَثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا يُمْدَحُ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَكُونُ كَمَالًا لَهُ ، بَلْ هُوَ أَنْقَصُ النَّقْصِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا إِذَا تَضَمَّنَ الْإِثْبَاتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) لِكَمَالِ غِنَاهُ وَمُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) لِكَمَالِ غِنَاهُ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=38وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=61وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ )
[ ص: 162 ] لِكَمَالِ عِلْمِهِ ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) لِعَظَمَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِمَا سِوَاهُ ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَنَّهُ وَاسِعٌ ; فَيَرَى وَلَكِنْ لَا يُحَاطُ رَبُّهُ إِدْرَاكًا ; كَمَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا ، فَيُرَى وَلَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً ، وَهَكَذَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِإِثْبَاتِ جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ .