الوجه السادس والأربعون : أن
nindex.php?page=treesubj&link=20822معاني الكلام إما خبر وإما طلب وإما استفهام ، والطلب أمر ونهي وإنشاء ، وهذه حقائق ثابتة في أنفسها معقولة متميزة يميز العقل بينها ويحكم بصحة أقسامها ، وكذلك كان تقسيم الكلام إليها صحيحا ، لأنه لما صح تقسيم معناه صح تقسيم لفظه .
فإذا قيل : الطلب ينقسم إلى أمر ونهي كان كل من المنقسمين متميزا بحقيقته عن الآخر لفظا ومعنى ، وهذا بخلاف تقسيم المعنى المدلول عليه إلى حقيقة ومجاز ، فإنه أمر لا يعقل ولا ينفصل فيه أحد القسمين عن الآخر ، فإن المعاني المتصورة إما أن تكون مفردة كتصور الماهيات تصورا ساذجا من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات ، فهذه لا يتصور فيها التقسيم إلى حقيقة ومجاز ، فإنها مجرد صورة ذهنية تنتقش في النفس الناطقة ، وإما أن ينسب الذهن بعضها إلى بعض نسبة خبرية أو طلبية ، وهذه حقيقة الكلام المركب ، وهذه النسبة إما من باب العلوم إن كان خبرية وإما من باب
[ ص: 330 ] الإرادات إن كانت طلبية ، والنسبة الخبرية إما صادقة إن طابقت متعلقها ، وإما كاذبة إن لم تطابقه ، والنسبة الطلبية إما إن يكون المطلوب بها معدوما فيطلب إيجاده ، وهو الأمر ، أو موجودا فيطلب إعدامه ، أو معدوما فيطلب إبقاؤه على العدم وكف النفس عنه ، وهو النهي ، وهذه المعاني لا يتصور انقسامها في أنفسها إلى حقيقة ومجاز انقساما معقولا ، فلا يصح انقسام اللفظ الدال عليها ، وهذا عكس انقسام اللفظ إلى خبر وطلب ، والطلب إلى أمر ونهي وإنشاء ، فإن صحة هذا التقسيم اللفظي تابع لصحة انقسام المدلول المعنوي ، وحينئذ فنقول في :
الوجه السابع والأربعين : أنه لو صح
nindex.php?page=treesubj&link=20986تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لكان ذلك إما باعتبار لفظه فقط أو باعتبار معناه فقط أو باعتبارهما معا ، فالتقسيم إما في الدليل وفي المدلول ! وإما في الدلالة والكل باطل ، فالتقسيم باطل ، أما بطلانه باعتبار لفظه فقط فظاهر ، فإنه لم يقل عاقل : إن اللفظ بقطع النظر عن معناه ومدلوله ينقسم إلى حقيقة ومجاز ، وأما بطلانه باعتبار المعنى فقط فلما قررناه من المعاني لا يتصور فيها الحقيقة فإنها ثابتة وإما منتفية ، فإذا بطل التقسيم باعتبار كل من اللفظ والمعنى بطل باعتبارهما معا .
فإن قيل : بل التقسيم باعتبار الدلالة فإنها إما حقيقة وإما مجازية .
قيل : هذا أيضا لا يصح فإن الدلالة يراد بها أمران : أحدهما : فعل الدال وهو دلالته بلفظه يقال له دلالة ، والثاني : فهم السامع ذلك المعنى من اللفظ ، كما يقال : حصلت له الدلالة ، والأشهر أن الأول بكسر الدال والثاني بفتحها ، وعلى التقديرين فالمعنى المقصود من اللفظ هو حقيقة ، وإن اختلفت وجوه دلالته بحسب غموض المعنى وخفائه ، واقتدار المتكلم على البيان وعجزه ، ومعرفة السامع بلغته وعادة خطابه وتقصيره في ذلك .
فإذا فهم السامع مقصود المتكلم فقد فهم حقيقة كلامه ، لهذا يقال علمت حقيقة مقصودي ، وفهمت حقيقة كلامي ، فإذا قال اقطع عني لسان فلان الشاعر ، وإذا دخلت بلد كذا فإن فيه بحرا فاقتبس منه العلم ، ونحو ذلك ، ففعل ما أمر به صح أن يقال فيه : فهمت حقيقة قولي ، فالدلالة هي الفهم ، والإفهام ينقسم إليهما ، فتقسيم الدلالة إلى حقيقة ومجاز لا يعقل البتة .
الوجه الثامن والأربعون : وهو أيضا يجتث المجاز من أصله ويبين أنه لا حقيقة له
[ ص: 331 ] وهو أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز فرع لثبوت الوضع المغاير للاستعمال ، فكأن أصحابه أوهموا أن جماعة من العقلاء اجتمعوا ووضعوا ألفاظا لمعان ، ثم نقلوا هم أو غيرهم تلك الألفاظ أو أكثرها عند من يقول أكثر اللغة مجاز أو بعضها إلى معان أخر فوضعوها لتلك المعاني أولا ، ولهذه المعاني ثانيا .
وهذا غير معلوم وجوده ، بل الإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة ، وإن سمي توقيعا ، فمن ادعى وضعا متقدما على استعمال جميع الأجناس فقد قال ما لا علم له به ، وإنما المعلوم الاستعمال ، والقول بالمجاز إنما يصح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية ، وأن العقلاء أجمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ، وهذا مما لا يمكن بشرا على وجه الأرض لو عمر عمر نوح أن يثبت أن جماعة من العرب اجتمعوا ووضعوا جميع هذه الأسماء المستعملة في اللغة ، ثم استعملوها بعد الوضع ، ثم نقلوها بعد الاستعمال ، وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني .
فإن قيل : نحن نثبت الوضع بالدليل العقلي ، فإن الاستعمال يستلزم سابقة الوضع ، ووجود الملزوم بدون لازمه محال ، قيل : الجواب من وجهين :
أحدهما : أن دعوى اللزوم دعوى لا دليل عليها ، ولا تكون مقبولة ، فمن أين لكم أن الاستعمال مستلزم سابقة الوضع والاصطلاح : أبالعقل علم هذا اللزوم أو بالشرع وبالضرورة عرف أم بالنظر .
الثاني : أنا نعلم بالمشاهدة ما يدل على خلاف ذلك ، فإن الله سبحانه يلهم الحيوانات والطير ما يعرف به بعضها مراد بعض ، والإنسان أشد قبولا للإلهام من الحيوانات ، وقد سمى الله ذلك منطقا في قوله عن نبيه
سليمان عليه الصلاة والسلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=16علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ) وحكى عن النملة قولها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=18ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) وأوحى إلى الجبال والطير أن تسبح مع نبيه
داود ، وكذلك الآدمي ، فإن المولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى ، فيفهم أن اللفظ متى أطلق أريد به ذلك المعنى ، ثم لا يزال يسمع لفظا بعد لفظ ، ويعقل معنى دون معنى على التدريج حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم ، ولا وقفوه على معاني
[ ص: 332 ] الأسماء ، وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأسماء فيوقف عليها ، كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معانيها ، لا أنه يصطلح معه على وضع ألفاظها لمعانيها .
ولا ننكر أن يحدث في كل زمان أوضاع لما يحدث من المعاني التي لم تكن قبل ، ولا سيما أرباب كل صناعة ، فإنهم يضعون لآلات صناعتهم من الأسماء ما يحتاجون إليه في تفهيم بعضهم مراد بعض عند التخاطب ، ولا تتم مصلحتهم إلا بذلك ، وهذا أمر عام لأهل كل صناعة مقترحة أو غير مقترحة ، بل أهل كل علم من العلوم قد اصطلحوا على ألفاظ يستعملونها في علومهم تدعو حاجتهم إليها للفهم والتفهيم ، فهذه الاصطلاحات الحادثة والتي يعرف فيها الوضع السابق على الاستعمال ، وليس الكلام فيها .
والظاهر ، والله أعلم ، أن أرباب المجاز قاسوا أصول اللغة عليها ، وظنوا أن التخاطب العام بأصل اللغة جار هذا المجرى ،
nindex.php?page=treesubj&link=21016_27840وإدخال المجاز في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكلام العرب بهذا الطريق باطل قطعا .
وكأني ببعض أصحاب القلوب الغلف يقول : وهل لأحد أن يحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
اقطعوا عني لسانه " لمن امتدحه ، وقوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347285إن خالدا سيف من سيوف الله " وقوله في الفرس : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347286إن وجدناه لبحرا " وقوله عن
حمزة : "
إنه أسد الله وأسد رسوله " وقوله عن الحجر الأسود : "
إنه يمين الله في الأرض " وقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347288الآن حمي الوطيس " وقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347289اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " ونحو ذلك ، على حقيقته .
فيقال له : وما حقيقة ذلك عندك ؟ فإنك أخطأت كل خطأ إذ ظننت أن حقيقته غير المعنى المراد به ، والمفهوم منه هو إسكات المادح عنه بالعطاء فيقطع لسان مقاله ، وكون
خالدا يقتل المشركين كما يقتل السيف المسلول الذي لا يحتاج إلى أن ينتضى ، بل هو مسلول مستعد للقتل ، وكون
حمزة مفترسا لأعداء الله إذا رأى المشرك لم يلبث أن يفترسه ، كما أن الأسد إذا رأى الغير لم يدعه حتى يفترسه ، وكون مقبل الحجر
[ ص: 333 ] الأسود بمنزلة مقبل يمين الرحمن ، لا أنه نفس صفته القديمة وعين يده التي خلق بها
آدم ويطوي بها السماوات والأرض ، وكون الحرب منزلة التنور الذي يسجر قليلا قليلا حتى يشتد حموه ، فيحرق ما يلقى فيه ، وكون الخطايا بمنزلة الوسخ والدرن يوسخ البدن ويوهنه يضعف قواه ، والثلج والبرد والماء البارد يزيل درنه ويعيد قوته ويزيده صلابة وشدة ، فهل لهذه الألفاظ حقيقة إلا ذلك وما استعملت إلا في حقائقها .
فهذا التقييد والتركيب عين المراد منها بحيث لا تحتمل غيره ، كما أن التقييد والتركيب في قولك : جاء الثلج حتى عم الأرض وأصاب البرد الزرع ، والماء البارد يروي الظمآن ، والأسد ملك الوحوش ، والسيف ملك السلاح ، وفي قطع اللسان الدية ، وإذا حمي الوطيس فضع فيه العجين ، لا يحتمل غير المراد منه في هذا التركيب ، فهذا مقيد وهذا مقيد ، وهذا موضوع وهذا موضوع ، وهذا مستعمل وهذا مستعمل ، وهذا لا يحتمل غير معناه وهذا لا يحتمل غير معناه ، فأي كتاب أو سنة ، أو عقل أو نظير ، أو قياس صحيح ، أو مناسبة معتبرة ، أو قول من يحتج بقوله جعل هذا حقيقة وهذا مجاز ، وهذا يتبين ويظهر جدا .
الوجه التاسع والأربعون : وهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=28447الخائضين في المجاز تارة يخوضون فيه إخبارا وحملا لكلام المتكلم عليه ، وتارة يخوضون فيه استعمالا في الخطب والرسائل والنظم والنثر ، فينقلون ألفاظا لها معان في اللغة إلى معان أخر تشابهها ، ويقولون : استعرنا هذه الألفاظ لهذه المعاني ، لا يخرج كلامهم في المجاز عن هذين الأصلين البتة ، فيجب التمييز بين الحمل والاستعمال ، فإذا قالوا : نحمل هذا اللفظ في كلام المتكلم على مجازه ، إما أن يريدوا به الإخبار عنه بأنه صرفه عن معناه المفهوم منه في أصل التخاطب إلى غيره ، فهذا خبر ، وهو إما صدق إن طابق الواقع ، وإما كذب إن لم يطابق ، فمن أين لكم أنه لم يرد به معناه المفهوم منه عند الخطاب .
وإن عنيتم بالحمل أنا ننشئ له من عندنا وضعا لمعنى أن يستعمل فيه ثم نعتقد أن المتكلم أراد ذلك المعنى ، كان هذا خطأ من وجهين : أحدهما : إنشاء وضع جديد لذلك اللفظ والثاني : اعتقاد إرادة المتكلم لذلك المعنى وتنزيل كلامه على ذلك الوضع ، فإذا قال قائل : اليد مجاز في القدرة ، والاستواء مجاز في الاستيلاء ، والرحمة مجاز في الإنعام ، والغضب مجاز في الانتقام ، والتكلم مجاز في الإنعام ، في الإكرام ، قيل : تعنون بكونها مجازا في ذلك أن لكم أن تستعملوها في هذه المعاني وتعبرون عنها
[ ص: 334 ] بهذه العبارات ، أم تعنون أنها إذا وردت في كلام الله ورسوله كان المفهوم منها هذه المعاني ، وهي مجازات فيها .
فإن أردتم الأول فأنتم وذاك ، فاستعملوها فيما أردتم ، وسموا ذلك الاستعمال ما شئتم ، وإن أردتم الثاني كنتم مخطئين من وجهين : أحدهما : حكمكم على الله ورسوله أنه أراد بهذه الألفاظ خلاف معانيها المفهومة منها عند التخاطب ، فإن هذا ضد البيان والتفهيم ، وهو بالتلبيس أشبه منه بالتبيين ، فتعالى عنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ، وقد صرح الناس قديما وحديثا بأن الله لا يجوز أن يتكلم بشيء ويعني به خلاف ظاهره .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ظاهره ، وقال صاحب المحصل في الباب التاسع من أحكام اللغات ( المسألة الثانية ) لا يجوز أن يعني الله سبحانه بكلامه خلاف ظاهره ، والخلاف فيه مع
المرجئة ، قال : لنا أن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره مهمل ، والتكلم به غير جائز على الله تعالى .
ثم أجاب عن شبه المنازعين بأن قال : لو صح ما ذكرتموه لم يبق لنا اعتماد على شيء من أخبار الله تعالى ، لأنه ما من خبر إلا ويحتمل أن يكون المراد به غير ظاهره ، وذلك ينفي الوثوق . اهـ .
وعلى هذا فنقول : إذا كان
nindex.php?page=treesubj&link=21016ظاهر كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والأصل فيه الحقيقة لم يجز أن يحمل على مجازه ، وخلاف ظاهره البتة لما ذكره من الدليل ، فإن المجاز لو صح كان خلاف الأصل والظاهر ، ولا يجوز الشهادة على الله سبحانه ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم أنه أراد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته ، ولا في موضع واحد البتة ، بل كل موضع ظهر فيه المراد بذلك التركيب والاقتران فهو ظاهره وحقيقته لا ظاهر له غيره ، ولا حقيقة له سواه ، فقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) حقيقته وظاهره أنه أجاعها بعد شبعها ، وأخافها بعد أمنها ، وألبس بواطنها ذل الجوع وذل الخوف ، فصار ذلك لباسا لبواطنهم تذوقه وتباشره ، ولباس كل شيء بحسبه ، ولباس الظاهر ظاهر ، ولباس الباطن باطن ، فذوق كل شيء بحسبه ، فذوق الطعام والشراب بالفم ، وذوق الجوع والخوف بالقلب ، وذوق الإيمان بالقلب أيضا ، كقوله صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347290ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، فهذا الذوق
[ ص: 335 ] الباطن بالحاسة الباطنة ، وذوق الظاهر بالحاسة الظاهرة ، وهذا حقيقة في مورده ، وهذا حقيقة في مورده .
وكذلك الحلاوة والطعم هي بحسب المضاف إليه ، فحلاوة الإيمان وطعمه معنويان ، وحلاوة العسل وطعمه حسيان ، كل منهما حقيقة فيما أضيف إليه .
والمقصود بهذا الوجه أنه إن ظهر مراد المتكلم لم يجز أن يحمل على خلاف ظاهره ويدعى أنه مجاز بالنسبة إلى ذلك المحمل ، إذ حقيقته هو المفهوم منه ، فدعوى المجاز باطلة وإن ادعي صرفه عن ظاهره إلى خلافه وأن ذلك مجاز فهو باطل أيضا ، فبطلت دعوى المجاز على التقديرين ، فإن ظاهر اللفظ ومفهومه وحقيقته لا يكون مجازا البتة ، وهؤلاء تارة يجعلونه مجازا فيما لا ظاهر له غير معناه ، فيكون خطؤهم في اللفظ والتسمية ، وتارة يجعلونه مجازا في خلاف ظاهره والمفهوم منه ويعدون أنه المراد ، فيكونون مخطئين من وجهين : من جهة اللفظ والمعنى .
الوجه الخمسون : أن
nindex.php?page=treesubj&link=21016_28447القائلين بالمجاز ، منهم من أسرف فيه وغلا حتى ادعى أن أكثر ألفاظ القرآن بل أكثر اللغة مجاز ، واختار هذا جماعة ممن ينتسب إلى التحقيق والتدقيق ، ولا تحقيق ولا تدقيق ، وإنما هو خروج عن سواء الطريق ومفارقة للتوفيق ، وهؤلاء إذا ادعوا أن المجاز هو الغالب صار هو الأصل ، ولا يصح قولهم : الأصل الحقيقة ، وإذا تعارض المجاز والحقيقة تعينت الحقيقة ، إذ الإلحاق بالغالب الكثير أولى منه بالنادر الأقل .
فإن الأصل يطلق على معان أربعة أحدها : ما منه الشيء ، وهذا أولى معانيه باللغة ، كالخشب أصل السرير ، والحديد أصل السيف ، الثاني : دليل الشيء كأصول الفقه ، أي أدلته ، الثالث : الصور المقيس عليها ، والمقيسة هي الفرع ، الرابع : الأكثر أصل الأقل ، والغالب أصل المغلوب ، ومنه أصل الحقيقة ، فإذا كان المجاز هو الأكثر الغالب بقي هو الأصل ، وحينئذ فطرد قول هؤلاء إنه إذا ورد اللفظ يحتمل الحقيقة والمجاز يحمل على مجازه لأنه الأكثر والغالب ، وفي هذا من فساد العلوم والأديان وفساد البيان الذي علمه الرحمن الإنسان ، وعده عليه من جملة الإحسان والامتنان ما لا يخفى ، إذ قد انتهى الأمر إلى هذا فلا بد من ذكر قول هذا القائل وبيان فساده فنقول في :
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20822مَعَانِيَ الْكَلَامِ إِمَّا خَبَرٌ وَإِمَّا طَلَبٌ وَإِمَّا اسْتِفْهَامٌ ، وَالطَّلَبُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِنْشَاءٌ ، وَهَذِهِ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ فِي أَنْفُسِهَا مَعْقُولَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ يُمَيِّزُ الْعَقْلُ بَيْنَهَا وَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ أَقْسَامِهَا ، وَكَذَلِكَ كَانَ تَقْسِيمُ الْكَلَامِ إِلَيْهَا صَحِيحًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ تَقْسِيمُ مَعْنَاهُ صَحَّ تَقْسِيمُ لَفْظِهِ .
فَإِذَا قِيلَ : الطَّلَبُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُنْقَسِمَيْنِ مُتَمَيِّزًا بِحَقِيقَتِهِ عَنِ الْآخَرِ لَفْظًا وَمَعْنًى ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَقْسِيمِ الْمَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْقَلُ وَلَا يَنْفَصِلُ فِيهِ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ ، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُتَصَوَّرَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُفْرَدَةً كَتَصَوُّرِ الْمَاهِيَّاتِ تَصَوُّرًا سَاذَجًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْكُمَ عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ ، فَهَذِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّقْسِيمُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ ، فَإِنَّهَا مُجَرَّدُ صُورَةٍ ذِهْنِيَّةٍ تَنْتَقَشُ فِي النَّفْسِ النَّاطِقَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَنْسُبَ الذِّهْنُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ نِسْبَةً خَبَرِيَّةً أَوْ طَلَبِيَّةً ، وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ الْمُرَكَّبِ ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ إِمَّا مِنْ بَابِ الْعُلُومِ إِنْ كَانَ خَبَرِيَّةً وَإِمَّا مِنْ بَابِ
[ ص: 330 ] الْإِرَادَاتِ إِنْ كَانَتْ طَلَبِيَّةً ، وَالنِّسْبَةُ الْخَبَرِيَّةُ إِمَّا صَادِقَةٌ إِنْ طَابَقَتْ مُتَعَلِّقَهَا ، وَإِمَّا كَاذِبَةٌ إِنْ لَمْ تُطَابِقْهُ ، وَالنِّسْبَةُ الطَّلَبِيَّةُ إِمَّا إِنْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ بِهَا مَعْدُومًا فَيُطْلَبُ إِيجَادُهُ ، وَهُوَ الْأَمْرُ ، أَوْ مَوْجُودًا فَيُطْلَبُ إِعْدَامُهُ ، أَوْ مَعْدُومًا فَيُطْلَبُ إِبْقَاؤُهُ عَلَى الْعَدَمِ وَكَفِّ النَّفْسِ عَنْهُ ، وَهُوَ النَّهْيُ ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُتَصَوَّرُ انْقِسَامُهَا فِي أَنْفُسِهَا إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ انْقِسَامًا مَعْقُولًا ، فَلَا يَصِحُّ انْقِسَامُ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهَا ، وَهَذَا عَكْسُ انْقِسَامِ اللَّفْظِ إِلَى خَبَرٍ وَطَلَبٍ ، وَالطَّلَبِ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَإِنْشَاءٍ ، فَإِنَّ صِحَّةَ هَذَا التَّقْسِيمِ اللَّفْظِيِّ تَابِعٌ لِصِحَّةِ انْقِسَامِ الْمَدْلُولِ الْمَعْنَوِيِّ ، وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ فِي :
الْوَجْهِ السَّابِعِ وَالْأَرْبَعِينَ : أَنَّهُ لَوْ صَحَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20986تَقْسِيمُ الْكَلَامِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ لَكَانَ ذَلِكَ إِمَّا بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ فَقَطْ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ فَقَطْ أَوْ بِاعْتِبَارِهِمَا مَعًا ، فَالتَّقْسِيمُ إِمَّا فِي الدَّلِيلِ وَفِي الْمَدْلُولِ ! وَإِمَّا فِي الدَّلَالَةِ وَالْكُلُّ بَاطِلٌ ، فَالتَّقْسِيمُ بَاطِلٌ ، أَمَّا بُطْلَانُهُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ فَقَطْ فَظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ عَاقِلٌ : إِنَّ اللَّفْظَ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَعْنَاهُ وَمَدْلُولِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ ، وَأَمَّا بُطْلَانُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَقَطْ فَلِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْمَعَانِي لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ وَإِمَّا مُنْتَفِيَةٌ ، فَإِذَا بَطَلَ التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بَطَلَ بِاعْتِبَارِهِمَا مَعًا .
فَإِنْ قِيلَ : بَلِ التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهَا إِمَّا حَقِيقَةٌ وَإِمَّا مَجَازِيَّةٌ .
قِيلَ : هَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ فَإِنَّ الدَّلَالَةَ يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : فِعْلُ الدَّالِّ وَهُوَ دَلَالَتُهُ بِلَفْظِهِ يُقَالُ لَهُ دَلَالَةٌ ، وَالثَّانِي : فَهْمُ السَّامِعِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ اللَّفْظِ ، كَمَا يُقَالُ : حَصَلَتْ لَهُ الدَّلَالَةُ ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّ الْأَوَّلَ بِكَسْرِ الدَّالِ وَالثَّانِيَ بِفَتْحِهَا ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنَ اللَّفْظِ هُوَ حَقِيقَةٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ وُجُوهُ دَلَالَتِهِ بِحَسَبِ غُمُوضِ الْمَعْنَى وَخَفَائِهِ ، وَاقْتِدَارِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْبَيَانِ وَعَجْزِهِ ، وَمَعْرِفَةِ السَّامِعِ بِلُغَتِهِ وَعَادَةِ خِطَابِهِ وَتَقْصِيرِهِ فِي ذَلِكَ .
فَإِذَا فَهِمَ السَّامِعُ مَقْصُودَ الْمُتَكَلِّمِ فَقَدْ فَهِمَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، لِهَذَا يُقَالُ عَلِمْتَ حَقِيقَةَ مَقْصُودِي ، وَفَهِمْتَ حَقِيقَةَ كَلَامِي ، فَإِذَا قَالَ اقْطَعْ عَنِّي لِسَانَ فُلَانٍ الشَّاعِرِ ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَلَدَ كَذَا فَإِنَّ فِيهِ بَحْرًا فَاقْتَبِسْ مِنْهُ الْعِلْمَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَفَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : فَهِمْتَ حَقِيقَةَ قَوْلِي ، فَالدَّلَالَةُ هِيَ الْفَهْمُ ، وَالْإِفْهَامُ يَنْقَسِمُ إِلَيْهِمَا ، فَتَقْسِيمُ الدَّلَالَةِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ لَا يُعْقَلُ الْبَتَّةَ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ : وَهُوَ أَيْضًا يَجْتَثُّ الْمَجَازَ مِنْ أَصْلِهِ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ
[ ص: 331 ] وَهُوَ أَنَّ تَقْسِيمَ الْكَلَامِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فَرْعٌ لِثُبُوتِ الْوَضْعِ الْمُغَايِرِ لِلِاسْتِعْمَالِ ، فَكَأَنَّ أَصْحَابَهُ أُوهِمُوا أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُقَلَاءِ اجْتَمَعُوا وَوَضَعُوا أَلْفَاظًا لِمَعَانٍ ، ثُمَّ نَقَلُوا هُمْ أَوْ غَيْرُهُمْ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ أَوْ أَكْثَرَهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ أَكْثَرُ اللُّغَةِ مَجَازٌ أَوْ بَعْضُهَا إِلَى مَعَانٍ أُخَرَ فَوَضَعُوهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي أَوَّلًا ، وَلِهَذِهِ الْمَعَانِي ثَانِيًا .
وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَجُودُهُ ، بَلِ الْإِلْهَامُ كَافٍ فِي النُّطْقِ بِاللُّغَاتِ مِنْ غَيْرِ مُوَاضَعَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ، وَإِنْ سُمِّيَ تَوْقِيعًا ، فَمَنِ ادَّعَى وَضْعًا مُتَقَدِّمًا عَلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ فَقَدْ قَالَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْلُومُ الِاسْتِعْمَالُ ، وَالْقَوْلُ بِالْمَجَازِ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ اللُّغَاتِ اصْطِلَاحِيَّةً ، وَأَنَّ الْعُقَلَاءَ أَجْمَعُوا وَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا هَذَا بِكَذَا وَهَذَا بِكَذَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ بَشَرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَوْ عُمِّرَ عُمْرَ نُوحٍ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعَرَبِ اجْتَمَعُوا وَوَضَعُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي اللُّغَةِ ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا بَعْدَ الْوَضْعِ ، ثُمَّ نَقَلُوهَا بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا عَنَوْهُ بِهَا مِنَ الْمَعَانِي .
فَإِنْ قِيلَ : نَحْنُ نُثْبِتُ الْوَضْعَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ ، فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَسْتَلْزِمُ سَابِقَةَ الْوَضْعِ ، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُحَالٌ ، قِيلَ : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ دَعْوَى اللُّزُومِ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ، وَلَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مُسْتَلْزِمٌ سَابِقَةَ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحَ : أَبِالْعَقْلِ عُلِمَ هَذَا اللُّزُومُ أَوْ بِالشَّرْعِ وَبِالضَّرُورَةِ عُرِفَ أَمْ بِالنَّظَرِ .
الثَّانِي : أَنَّا نَعْلَمُ بِالْمُشَاهَدَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْحَيَوَانَاتِ وَالطَّيْرَ مَا يَعْرِفُ بِهِ بَعْضُهَا مُرَادَ بَعْضٍ ، وَالْإِنْسَانُ أَشَدُّ قَبُولًا لِلْإِلْهَامِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ مَنْطِقًا فِي قَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّهِ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=16عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) وَحَكَى عَنِ النَّمْلَةِ قَوْلَهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=18يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) وَأَوْحَى إِلَى الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ أَنْ تُسَبِّحَ مَعَ نَبِيِّهِ
دَاوُدَ ، وَكَذَلِكَ الْآدَمِيُّ ، فَإِنَّ الْمَوْلُودَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ التَّمْيِيزُ سَمِعَ أَبَوَيْهِ أَوْ مَنْ يُرَبِّيهِ يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ وَيُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى ، فَيَفْهَمُ أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى أُطْلِقَ أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَسْمَعُ لَفْظًا بَعْدَ لَفْظٍ ، وَيَعْقِلُ مَعْنًى دُونَ مَعْنًى عَلَى التَّدْرِيجِ حَتَّى يَعْرِفَ لُغَةَ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَشَأَ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدِ اصْطَلَحُوا مَعَهُ عَلَى وَضْعٍ مُتَقَدِّمٍ ، وَلَا وَقَّفُوهُ عَلَى مَعَانِي
[ ص: 332 ] الْأَسْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا قَدْ يَسْأَلُ عَنْ مُسَمَّى بَعْضِ الْأَسْمَاءِ فَيُوقَفُ عَلَيْهَا ، كَمَا يُتَرْجِمُ لِلرَّجُلِ اللُّغَةَ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا فَيُوقَفُ عَلَى مَعَانِيهَا ، لَا أَنَّهُ يَصْطَلِحُ مَعَهُ عَلَى وَضْعِ أَلْفَاظِهَا لِمَعَانِيهَا .
وَلَا نُنْكِرُ أَنْ يَحْدُثَ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَوْضَاعٌ لِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَمْ تَكُنْ قَبْلُ ، وَلَا سِيَّمَا أَرْبَابَ كُلِّ صِنَاعَةٍ ، فَإِنَّهُمْ يَضَعُونَ لِآلَاتِ صِنَاعَتِهِمْ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي تَفْهِيمِ بَعْضِهِمْ مُرَادَ بَعْضٍ عِنْدِ التَّخَاطُبِ ، وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إِلَّا بِذَلِكَ ، وَهَذَا أَمْرٌ عَامٌّ لِأَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ مُقْتَرَحَةٍ أَوْ غَيْرِ مُقْتَرَحَةٍ ، بَلْ أَهْلُ كُلِّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ قَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَلْفَاظٍ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي عُلُومِهِمْ تَدْعُو حَاجَتُهُمْ إِلَيْهَا لِلْفَهْمِ وَالتَّفْهِيمِ ، فَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ الْحَادِثَةُ وَالَّتِي يُعْرَفُ فِيهَا الْوَضْعُ السَّابِقُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهَا .
وَالظَّاهِرُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، أَنَّ أَرْبَابَ الْمَجَازِ قَاسُوا أُصُولَ اللُّغَةِ عَلَيْهَا ، وَظَنُّوا أَنَّ التَّخَاطُبَ الْعَامَّ بِأَصْلِ اللُّغَةِ جَارٍ هَذَا الْمَجْرَى ،
nindex.php?page=treesubj&link=21016_27840وَإِدْخَالُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ الْعَرَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَاطِلٌ قَطْعًا .
وَكَأَنِّي بِبَعْضِ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ الْغُلْفِ يَقُولُ : وَهَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ " لِمَنِ امْتَدَحَهُ ، وَقَوْلَهُ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347285إِنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ " وَقَوْلَهُ فِي الْفَرَسِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347286إِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا " وَقَوْلَهُ عَنْ
حَمْزَةَ : "
إِنَّهُ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ " وَقَوْلَهُ عَنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : "
إِنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ " وَقَوْلَهُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347288الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ " وَقَوْلَهُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347289اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ " وَنَحْوَ ذَلِكَ ، عَلَى حَقِيقَتِهِ .
فَيُقَالُ لَهُ : وَمَا حَقِيقَةُ ذَلِكَ عِنْدَكَ ؟ فَإِنَّكَ أَخْطَأْتَ كُلَّ خَطَأٍ إِذْ ظَنَنْتَ أَنَّ حَقِيقَتَهُ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِهِ ، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ هُوَ إِسْكَاتُ الْمَادِحِ عَنْهُ بِالْعَطَاءِ فَيُقْطَعُ لِسَانُ مَقَالِهِ ، وَكَوْنُ
خَالِدًا يَقْتُلُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتُلُ السَّيْفُ الْمَسْلُولُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُنْتَضَى ، بَلْ هُوَ مَسْلُولٌ مُسْتَعِدٌّ لِلْقَتْلِ ، وَكَوْنُ
حَمْزَةَ مُفْتَرِسًا لِأَعْدَاءِ اللَّهِ إِذَا رَأَى الْمُشْرِكَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَفْتَرِسَهُ ، كَمَا أَنَّ الْأَسَدَ إِذَا رَأَى الْغَيْرَ لَمْ يَدَعْهُ حَتَّى يَفْتَرِسَهُ ، وَكَوْنُ مُقَبِّلِ الْحَجَرِ
[ ص: 333 ] الْأَسْوَدِ بِمَنْزِلَةِ مُقْبِلِ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ، لَا أَنَّهُ نَفْسُ صِفَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَعَيْنُ يَدِهِ الَّتِي خَلَقَ بِهَا
آدَمَ وَيَطْوِي بِهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَكَوْنُ الْحَرْبِ مَنْزِلَةَ التَّنُّورِ الَّذِي يُسَجَّرُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَشْتَدَّ حُمُوُّهُ ، فَيَحْرِقُ مَا يُلْقَى فِيهِ ، وَكَوْنُ الْخَطَايَا بِمَنْزِلَةِ الْوَسَخِ وَالدَّرَنِ يُوَسِّخُ الْبَدَنَ وَيُوهِنُهُ يُضْعِفُ قُوَاهُ ، وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ يُزِيلُ دَرَنَهُ وَيُعِيدُ قُوَّتَهُ وَيَزِيدُهُ صَلَابَةً وَشِدَّةً ، فَهَلْ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةٌ إِلَّا ذَلِكَ وَمَا اسْتُعْمِلَتْ إِلَّا فِي حَقَائِقِهَا .
فَهَذَا التَّقْيِيدُ وَالتَّرْكِيبُ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنْهَا بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ ، كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالتَّرْكِيبَ فِي قَوْلِكَ : جَاءَ الثَّلْجُ حَتَّى عَمَّ الْأَرْضَ وَأَصَابَ الْبَرَدُ الزَّرْعَ ، وَالْمَاءُ الْبَارِدُ يَرْوِي الظَّمْآنَ ، وَالْأَسَدُ مَلِكُ الْوُحُوشِ ، وَالسَّيْفُ مَلِكُ السِّلَاحِ ، وَفِي قَطْعِ اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَإِذَا حَمِيَ الْوَطِيسُ فَضَعْ فِيهِ الْعَجِينَ ، لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ ، فَهَذَا مُقَيَّدٌ وَهَذَا مُقَيَّدٌ ، وَهَذَا مَوْضُوعٌ وَهَذَا مَوْضُوعٌ ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَاهُ وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَاهُ ، فَأَيُّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ، أَوْ عَقْلٍ أَوْ نَظِيرٍ ، أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ ، أَوْ مُنَاسَبَةٍ مُعْتَبَرَةٍ ، أَوْ قَوْلِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ جَعَلَ هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ ، وَهَذَا يَتَبَيَّنُ وَيَظْهَرُ جِدًّا .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : وَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28447الْخَائِضِينَ فِي الْمَجَازِ تَارَةً يَخُوضُونَ فِيهِ إِخْبَارًا وَحَمْلًا لِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ ، وَتَارَةً يَخُوضُونَ فِيهِ اسْتِعْمَالًا فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، فَيَنْقُلُونَ أَلْفَاظًا لَهَا مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ إِلَى مَعَانٍ أُخَرَ تُشَابِهُهَا ، وَيَقُولُونَ : اسْتَعَرْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي ، لَا يَخْرُجُ كَلَامُهُمْ فِي الْمَجَازِ عَنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْبَتَّةَ ، فَيَجِبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَمْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، فَإِذَا قَالُوا : نَحْمِلُ هَذَا اللَّفْظَ فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَجَازِهِ ، إِمَّا أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ مَعْنَاهُ الْمَفْهُومِ مِنْهُ فِي أَصْلِ التَّخَاطُبِ إِلَى غَيْرِهِ ، فَهَذَا خَبَرٌ ، وَهُوَ إِمَّا صِدْقٌ إِنْ طَابَقَ الْوَاقِعَ ، وَإِمَّا كَذِبٌ إِنْ لَمْ يُطَابِقْ ، فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَعْنَاهُ الْمَفْهُومَ مِنْهُ عِنْدَ الْخِطَابِ .
وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالْحَمْلِ أَنَّا نُنْشِئُ لَهُ مِنْ عِنْدِنَا وَضْعًا لِمَعْنَى أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ ثُمَّ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، كَانَ هَذَا خَطَأً مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إِنْشَاءُ وَضْعٍ جَدِيدٍ لِذَلِكَ اللَّفْظِ وَالثَّانِي : اعْتِقَادُ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَتَنْزِيلُ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعِ ، فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : الْيَدُ مَجَازٌ فِي الْقُدْرَةِ ، وَالِاسْتِوَاءُ مَجَازٌ فِي الِاسْتِيلَاءِ ، وَالرَّحْمَةُ مَجَازٌ فِي الْإِنْعَامِ ، وَالْغَضَبُ مَجَازٌ فِي الِانْتِقَامِ ، وَالتَّكَلُّمُ مَجَازٌ فِي الْإِنْعَامِ ، فِي الْإِكْرَامِ ، قِيلَ : تَعْنُونَ بِكَوْنِهَا مَجَازًا فِي ذَلِكَ أَنَّ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْمِلُوهَا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَتُعَبِّرُونَ عَنْهَا
[ ص: 334 ] بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ ، أَمْ تَعْنُونَ أَنَّهَا إِذَا وَرَدَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهَا هَذِهِ الْمَعَانِيَ ، وَهِيَ مَجَازَاتٌ فِيهَا .
فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْأَوَّلَ فَأَنْتُمْ وَذَاكَ ، فَاسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا أَرَدْتُمْ ، وَسَمُّوا ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالَ مَا شِئْتُمْ ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الثَّانِيَ كُنْتُمْ مُخْطِئِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حُكْمُكُمْ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ خِلَافَ مَعَانِيهَا الْمَفْهُومَةِ مِنْهَا عِنْدَ التَّخَاطُبِ ، فَإِنَّ هَذَا ضِدُّ الْبَيَانِ وَالتَّفْهِيمِ ، وَهُوَ بِالتَّلْبِيسِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالتَّبْيِينِ ، فَتَعَالَى عَنْهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَقَدْ صَرَّحَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ وَيَعْنِيَ بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : وَكَلَامُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحَصِّلِ فِي الْبَابِ التَّاسِعِ مِنْ أَحْكَامِ اللُّغَاتِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعَ
الْمُرْجِئَةِ ، قَالَ : لَنَا أَنَّ اللَّفْظَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ مُهْمَلٌ ، وَالتَّكَلُّمَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى .
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ شُبَهِ الْمُنَازِعِينَ بِأَنْ قَالَ : لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَمْ يَبْقَ لَنَا اعْتِمَادٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ خَبَرِ إِلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْوُثُوقَ . اهـ .
وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ : إِذَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=21016ظَاهِرُ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَقِيقَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَجَازِهِ ، وَخِلَافِ ظَاهِرِهِ الْبَتَّةَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّلِيلِ ، فَإِنَّ الْمَجَازَ لَوْ صَحَّ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ ، وَلَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ الْبَتَّةَ ، بَلْ كُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ الْمُرَادُ بِذَلِكَ التَّرْكِيبِ وَالِاقْتِرَانِ فَهُوَ ظَاهِرُهُ وَحَقِيقَتُهُ لَا ظَاهِرَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ سِوَاهُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ) حَقِيقَتُهُ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَجَاعَهَا بَعْدَ شِبَعِهَا ، وَأَخَافَهَا بَعْدَ أَمْنِهَا ، وَأَلْبَسَ بَوَاطِنَهَا ذُلَّ الْجُوعِ وَذُلَّ الْخَوْفِ ، فَصَارَ ذَلِكَ لِبَاسًا لِبَوَاطِنِهِمْ تَذُوقُهُ وَتُبَاشِرُهُ ، وَلِبَاسُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ، وَلِبَاسُ الظَّاهِرِ ظَاهِرٌ ، وَلِبَاسُ الْبَاطِنِ بَاطِنٌ ، فَذَوْقُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ، فَذَوْقُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِالْفَمِ ، وَذَوْقُ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِالْقَلْبِ ، وَذَوْقُ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ أَيْضًا ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10347290ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا ، فَهَذَا الذَّوْقُ
[ ص: 335 ] الْبَاطِنُ بِالْحَاسَّةِ الْبَاطِنَةِ ، وَذَوْقُ الظَّاهِرِ بِالْحَاسَّةِ الظَّاهِرَةِ ، وَهَذَا حَقِيقَةٌ فِي مَوْرِدِهِ ، وَهَذَا حَقِيقَةٌ فِي مَوْرِدِهِ .
وَكَذَلِكَ الْحَلَاوَةُ وَالطَّعْمُ هِيَ بِحَسَبِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، فَحَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَطَعْمُهُ مَعْنَوِيَّانِ ، وَحَلَاوَةُ الْعَسَلِ وَطَعْمُهُ حِسِّيَّانِ ، كُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ فِيمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ .
وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ وَيُدَّعَى أَنَّهُ مَجَازٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمَحْمَلِ ، إِذْ حَقِيقَتُهُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ ، فَدَعْوَى الْمَجَازِ بَاطِلَةٌ وَإِنِ ادُّعِيَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى خِلَافِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ، فَبَطَلَتْ دَعْوَى الْمَجَازِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ، فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَمَفْهُومَهُ وَحَقِيقَتَهُ لَا يَكُونُ مَجَازًا الْبَتَّةَ ، وَهَؤُلَاءِ تَارَةً يَجْعَلُونَهُ مَجَازًا فِيمَا لَا ظَاهِرَ لَهُ غَيْرُ مَعْنَاهُ ، فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي اللَّفْظِ وَالتَّسْمِيَةِ ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهُ مَجَازًا فِي خِلَافِ ظَاهِرِهِ وَالْمَفْهُومِ مِنْهُ وَيَعُدُّونَ أَنَّهُ الْمُرَادُ ، فَيَكُونُونَ مُخْطِئِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى .
الْوَجْهُ الْخَمْسُونَ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21016_28447الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ ، مِنْهُمْ مَنْ أَسْرَفَ فِيهِ وَغَلَا حَتَّى ادَّعَى أَنَّ أَكْثَرَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ بَلْ أَكْثَرَ اللُّغَةِ مَجَازٌ ، وَاخْتَارَ هَذَا جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى التَّحْقِيقِ وَالتَّدْقِيقِ ، وَلَا تَحْقِيقَ وَلَا تَدْقِيقَ ، وَإِنَّمَا هُوَ خُرُوجٌ عَنْ سَوَاءِ الطَّرِيقِ وَمُفَارَقَةٌ لِلتَّوْفِيقِ ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا ادَّعَوْا أَنَّ الْمَجَازَ هُوَ الْغَالِبُ صَارَ هُوَ الْأَصْلَ ، وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ : الْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْمَجَازُ وَالْحَقِيقَةُ تَعَيَّنَتِ الْحَقِيقَةُ ، إِذِ الْإِلْحَاقُ بِالْغَالِبِ الْكَثِيرِ أَوْلَى مِنْهُ بِالنَّادِرِ الْأَقَلِّ .
فَإِنَّ الْأَصْلَ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أَرْبَعَةٍ أَحَدُهَا : مَا مِنْهُ الشَّيْءُ ، وَهَذَا أَوْلَى مَعَانِيهِ بِاللُّغَةِ ، كَالْخَشَبِ أَصْلُ السَّرِيرِ ، وَالْحَدِيدِ أَصْلُ السَّيْفِ ، الثَّانِي : دَلِيلُ الشَّيْءِ كَأُصُولِ الْفِقْهِ ، أَيْ أَدِلَّتِهِ ، الثَّالِثُ : الصُّوَرُ الْمَقِيسُ عَلَيْهَا ، وَالْمَقِيسَةُ هِيَ الْفَرْعُ ، الرَّابِعُ : الْأَكْثَرُ أَصْلُ الْأَقَلِّ ، وَالْغَالِبُ أَصْلُ الْمَغْلُوبِ ، وَمِنْهُ أَصْلُ الْحَقِيقَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَجَازُ هُوَ الْأَكْثَرَ الْغَالِبَ بَقِيَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَحِينَئِذٍ فَطَرْدُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ إِنَّهُ إِذَا وَرَدَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ يُحْمَلُ عَلَى مَجَازِهِ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ وَالْغَالِبُ ، وَفِي هَذَا مِنْ فَسَادِ الْعُلُومِ وَالْأَدْيَانِ وَفَسَادِ الْبَيَانِ الَّذِي عَلَّمَهُ الرَّحْمَنُ الْإِنْسَانَ ، وَعَدَّهُ عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ الْإِحْسَانِ وَالِامْتِنَانِ مَا لَا يَخْفَى ، إِذْ قَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ وَبَيَانِ فَسَادِهِ فَنَقُولُ فِي :