فصل
فلنرجع إلى تمام المقصود فنقول : اختلف الناس في العقوبة على الأمور العدمية
nindex.php?page=treesubj&link=28787فمنكرو الحكم والتعليل لا ضابط للعقوبة عندهم إلا محض المشيئة ، وأما مثبتو الحكم والتعليل فالأكثرون منهم يقولون لا يعاقب على عدم المأمور لأنه عدم محض ، وإنما يعاقب على تركه ، والترك أمر وجودي ، وطائفة منهم
أبو هاشم وغيره يقولون : يعاقب
[ ص: 245 ] على الأمور الوجودية ، فيكون عقابه بالآلام ، وهذا القول الذي ذكرناه قول وسط بين القولين ، وهو أن العقوبة نوعان ، فيعاقب على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة المؤلمة ، ثم يعاقب على فعل السيئات بالآلام ، ولا يعاقب عليها حتى تقوم الحجة عليه بالرسالة ، فإذا عصى الرسول استحق العقوبة التامة ، وهو أولا إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من شره بعد قيام الحجة عليه ، أو التوبة بعد قيام الحجة عليه فإذا لم تقم عليه الحجة كان الصبي الذي يشتغل بما لا ينفعه ، بل بما هو من أسباب ضرره ، ولا يكتب عليه قلم الإثم حتى يبلغ ، فإذا بلغ عوقب ، ثم يكون ما اعتاده من فعل القبائح قبل البلوغ وإن لم يعاقب عليها سبب لمعصيته بعد البلوغ ، فتكون تلك المعاصي الحادثة منه قبل البلوغ ، فلم يعاقب العقوبة المؤلمة إلا على معصية ، وأما العقوبة الأولى فلا يلزم أن تكون على ذنب بل هي جارية مجرى تولد الآلام عما يأكله ويشربه ويمتنع به ، فتولدت تلك الذنوب بعد البلوغ عن تلك الأسباب المتقدمة قبله ، وهذا القول الوسط في العقوبة على العدم ، وهو الذي دل عليه القرآن ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=110ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) ، فأخبر سبحانه عن عقوبتهم على عدم الإيمان بتقليب أفئدتهم وأبصارهم .
فإن قلت : هذه عقوبة على أمر وجودي ، وهو تركهم الإيمان بعد إرسال الرسول ودعائه لهم ، قلت : الموجب لهذه العقوبة الخاصة هو عدم الإيمان ، ولكن إرسال الرسول وترك طاعته شرط في وقوع العذاب ، فالمقتضى قائم وهو عدم الإيمان ، لكنه مشروط وقوعه بشرط وهو إرسال الرسول ، ففرق بين انتفاء الشيء لانتفاء موجبه ومقتضيه ، وانتفائه لانتفاء شرطه بعد قيام المقتضى .
فَصْلٌ
فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ فَنَقُولُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ
nindex.php?page=treesubj&link=28787فَمُنْكِرُو الْحِكَمِ وَالتَّعْلِيلِ لَا ضَابِطَ لِلْعُقُوبَةِ عِنْدَهُمْ إِلَّا مَحْضُ الْمَشِيئَةِ ، وَأَمَّا مُثْبِتُو الْحِكَمِ وَالتَّعْلِيلِ فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ لَا يُعَاقِبُ عَلَى عَدَمِ الْمَأْمُورِ لِأَنَّهُ عَدَمٌ مَحْضٌ ، وَإِنَّمَا يُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِهِ ، وَالتَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ ، وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ
أَبُو هَاشِمٍ وَغَيْرُهُ يَقُولُونَ : يُعَاقِبُ
[ ص: 245 ] عَلَى الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ ، فَيَكُونُ عِقَابُهُ بِالْآلَامِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلٌ وَسَطٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ ، فَيُعَاقِبُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ لَا بِالْعُقُوبَةِ الْمُؤْلِمَةِ ، ثُمَّ يُعَاقِبُ عَلَى فِعْلِ السَّيِّئَاتِ بِالْآلَامِ ، وَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهَا حَتَّى تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ ، فَإِذَا عَصَى الرَّسُولَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ التَّامَّةَ ، وَهُوَ أَوَّلًا إِنَّمَا عُوقِبَ بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ شَرِّهِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ ، أَوِ التَّوْبَةُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَانَ الصَّبِيُّ الَّذِي يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يَنْفَعُهُ ، بَلْ بِمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ ضَرَرِهِ ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ قَلَمُ الْإِثْمِ حَتَّى يَبْلُغَ ، فَإِذَا بَلَغَ عُوقِبَ ، ثُمَّ يَكُونُ مَا اعْتَادَهُ مِنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنْ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَيْهَا سَبَبٌ لِمَعْصِيَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَتَكُونُ تِلْكَ الْمَعَاصِي الْحَادِثَةُ مِنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، فَلَمْ يُعَاقَبِ الْعُقُوبَةَ الْمُؤْلِمَةَ إِلَّا عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ الْأُولَى فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عَلَى ذَنْبٍ بَلْ هِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى تَوَلُّدِ الْآلَامِ عَمَّا يَأْكُلُهُ وَيَشْرَبُهُ وَيَمْتَنِعُ بِهِ ، فَتَوَلَّدَتْ تِلْكَ الذُّنُوبُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَهُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْوَسَطُ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْعَدَمِ ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=110وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ عُقُوبَتِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ بِتَقْلِيبِ أَفْئِدَتِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ .
فَإِنْ قُلْتَ : هَذِهِ عُقُوبَةٌ عَلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ ، وَهُوَ تَرْكُهُمُ الْإِيمَانَ بَعْدَ إِرْسَالِ الرَّسُولِ وَدُعَائِهِ لَهُمْ ، قُلْتُ : الْمُوجِبُ لِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ ، وَلَكِنَّ إِرْسَالَ الرَّسُولِ وَتَرْكَ طَاعَتِهِ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الْعَذَابِ ، فَالْمُقْتَضَى قَائِمٌ وَهُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ ، لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ وُقُوعُهُ بِشَرْطٍ وَهُوَ إِرْسَالُ الرَّسُولِ ، فَفَرْقٌ بَيْنَ انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضِيهِ ، وَانْتِفَائِهِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ بَعْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى .