[ ص: 642 ] سورة الكهف
قوله تعالى: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا
[قال ] : "باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: البخاري وما يكره من الصلاة في القبور": ورأى "لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" عمر يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر، ولم يأمره بالإعادة . أنس بن مالك
مقصود بهذا الباب: كراهة الصلاة بين القبور وإليها، واستدل لذلك بأن البخاري ليس هو من شريعة الإسلام، بل من عمل اليهود، وقد لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك . اتخاذ القبور مساجد
وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى . [ ص: 643 ] وإذا كرهت الصلاة إلى القبور وبينها، فإن كانت القبور محترمة اجتنبت الصلاة فيها، وإن كانت غير محترمة كقبور مشركي الجاهلية ونحوهم ممن لا عهد له ولا ذمة مع المسلمين، فإنه يجوز نبشها ونقل ما يوجد فيها من عظامهم، والصلاة في موضعها، فإنها لم تبق مقبرة ولا بقي فيها قبور، وقد نص على ذلك في رواية الإمام أحمد المروزي .
وأما ما ذكره عن - رضي الله عنه -، فمن رواية عمر ، عن سفيان عن حميد، ، قال: رآني أنس وأنا أصلي إلى قبر، فجعل يشير إلي: القبر القبر . ورواه عمر إسماعيل بن جعفر ، عن عن حميد، ، حدثه أنه قام يصلي إلى قبر لا يشعر به، فناداه أنس : القبر القبر، قال: ففطنت أنه يقول: القمر . فرفعت رأسي، فقال رجل: إنه يقول: القبر، فتنحيت . عمر
وروي عن ، عن أنس من وجوه أخر . عمر
وروى همام: ثنا ، أن قتادة مر على مقبرة وهم يبنون مسجدا، فقال أنسا : كان يكره أن يبنى مسجد في وسط القبور . أنس
وقال أشعث: عن : كانوا يكرهون الصلاة بين ظهراني القبور . ابن سيرين
خرج ذلك كله . أبو بكر الأثرم
وقال: سمعت - يسأل عن الصلاة في المقبرة؟ فكره الصلاة في المقبرة . فقيل له: أبا عبد الله - يعني: أحمد فكره ذلك، قيل له: إنه مسجد وبينه وبين القبور حاجز; فكره أن يصلى فيه الفرض، ورخص أن يصلى فيه على الجنائز، وذكر حديث أبي المسجد يكون بين القبور، أيصلى فيه؟ مرثد الغنوي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وقال: إسناد جيد . [ ص: 644 ] وحديث "لا تصلوا إلى القبور" . أبي مرثد هذا: خرجه ، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: مسلم "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" .
وروي عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي سعيد "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، إلا المقبرة والحمام " .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه ، والترمذي وابن حبان وصححه . والحاكم
وقد اختلف في إرساله ووصله بذكر " " فيه، ورجح كثير من الحفاظ إرساله: عن أبي سعيد عمرو بن يحيى، عن أبيه، ومنهم: الترمذي . والدارقطني
وفي الباب أحاديث أخر، قد استوفيناها في "كتاب شرح " . الترمذي
وأما ما ذكره : أن البخاري لم يأمر عمر بالإعادة . فقد اختلف في أنسا الصلاة في المقبرة: هل تجب إعادتها، أم لا؟
وأكثر العلماء على أنه لا تجب الإعادة بذلك، وهو قول . مالك ، والشافعي في رواية عنه . والمشهور عن وأحمد الذي عليه عامة أصحابه: أن عليه الإعادة " لارتكاب النهي في الصلاة فيها . وهو قول أهل الظاهر - أو بعضهم - وجعلوا النهي هاهنا لمعنى يختص [ ص: 645 ] بالصلاة من جهة مكانها، فهو كالنهي عن الصلاة المختص بها لزمانها كالصلاة في أوقات النهي، وكالصيام المنهي عنه لأجل زمنه المختص به كصيام العيدين . حتى إن من أصحابنا من قال: متى قلنا: النهي عن الصلاة في المقبرة والأعطان ونحوها للتحريم، فلا ينبغي أن يكون في بطلان الصلاة فيها خلاف عن أحمد ، وإنما الخلاف عنه في عدم البطلان مبني على القول بأنه مكروه كراهة تنزيه . أحمد
وأكثر العلماء على أن الكراهة في ذلك كراهة تنزيه،
ومنهم من رخص فيه .
قال : اختلفوا في الصلاة في المقبرة، فروينا عن ابن المنذر علي وابن عباس وعبد الله بن عمرو وعطاء أنهم كرهوا الصلاة فيها، واختلف عن والنخعي فيه، فحكى مالك ابن القاسم عنه أنه قال: لا بأس به، وحكى أبو مصعب عنه أنه قال: لا أحب ذلك .
قال : ونحن نكره من ذلك ما كرهه أهل العلم استدلالا بالثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ابن المنذر ففي هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة . "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا" .
قلت: قد استدل بذلك - أيضا - وعقد له بابا مفردا، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى . قال البخاري : وقد قال ابن المنذر نافع مولى ابن عمر : صلينا على عائشة [ ص: 646 ] وسط وأم سلمة البقيع، والإمام يومئذ ، وحضر ذلك أبو هريرة . ابن عمر
قلت: صلاة الجنازة مستثناة من النهي عند وغيره، وقد سبق قول الإمام أحمد في ذلك . وقال - أيضا -: لا يصلى في مسجد بين المقابر إلا الجنائز; لأن الجنائز هذه سنتها . يشير إلى فعل الصحابة - رضي الله عنهم - . أحمد
قال : وروينا أن ابن المنذر كان يصلي في المقبرة، غير أنه يستتر بقبر . واثلة بن الأسقع
قلت: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديث النهي عن الصلاة إلى القبور . فكان يخص النهي بحالة استقبال القبر خاصة .
قال : وصلى ابن المنذر في المقابر . الحسن البصري
قلت: لعله صلى على جنازة، فإنه روى عنه أنه أمر بهدم المساجد المبنية في المقابر .
قال: وكره عمر بن الخطاب الصلاة إلى المقابر . انتهى ما ذكره . وأنس بن مالك
واختلف القائلون بالكراهة في علة النهي:
فقال : علة ذلك النجاسة، فإن تراب المقابر يختلط بصديد الموتى ولحومهم، فإن كانت طاهرة صحت الصلاة فيها مع الكراهة . الشافعي
وقسم أصحابه المقبرة إلى ثلاثة أقسام: ما تكرر نبشها، فلا تصح الصلاة فيها، لاختلاط ترابها بالصديد . وجديدة لم تنبش، فتصح الصلاة فيها مع [ ص: 647 ] الكراهة; لأنها مدفن للنجاسة .
وما شك في نبشها، ففي صحة الصلاة فيها قولان .
واختلف أصحابنا في علة النهي عن الصلاة، فمنهم من قال: هو مظنة النجاسة، ومنهم من قال: هو تعبد لا يعقل . وقالوا مع هذا: لا فرق بين أن تكون قديمة أو حديثة، نبشت أو لم تنبش . إذا تناولها اسم مقبرة .
قالوا: فإن كان في بقعة قبر أو قبران فلا بأس بالصلاة فيه، ما لم يصل إلى القبر . وأنكر آخرون التعليل بالنجاسة، بناء على طهارة تراب المقابر بالاستحالة . وعللوا: بأن الصلاة في المقبرة وإلى القبور، إنما نهى عنه سدا لذريعة الشرك، فإن أصل الشرك وعبادة الأوثان كانت من تعظيم القبور . وقد ذكر في "صحيحه " في "تفسير سورة نوح " عن البخاري ، معنى ذلك . ابن عباس
وفي "صحيح " عن مسلم ، جندب وهذا يعم كل القبور . سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " .
وخرج الإمام أحمد في "صحيحه " من حديث وابن حبان ، [ ص: 648 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ابن مسعود "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد" .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث والنسائي ، عن أبي صالح ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن عباس "لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج .
وقال : حسن - وفي بعض النسخ: صحيح . الترمذي
وخرجه في "صحيحه " ابن حبان وصححه . والحاكم
واختلف في هذا، من هو؟ فقيل: إنه أبي صالح السمان - قاله ، وفيه بعد، وقيل: إنه الطبراني ميزان البصري . وهو ثقة; قاله . وقيل: إنه ابن حبان باذان مولى أم هانئ ; قاله والجمهور . الإمام أحمد
وقد اختلف في أمره .
فوثقه العجلي . وقال ليس به بأس، ابن معين:
وقال : يكتب حديثه ولا يحتج به . أبو حاتم
وقال : ليس بثقة . وضعفه النسائي وقال: لم يصح عندي حديثه هذا . الإمام أحمد
وقال في "كتاب التفصيل ": هذا الحديث ليس بثابت، مسلم وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من . [ ص: 649 ] وروي عن ابن عباس ، أنه نهى أن يبنى عند قبر أبيه مسجد . زيد بن ثابت
خرجه حرب الكرماني .
وقال في كتاب "الناسخ والمنسوخ ": إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب; لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . ووجدنا في كتاب مصنف على مذهب أبو بكر الأثرم : وإذا صلى الرجل وبين يديه ميت تنحى عنه . إنما كره الصلاة إلى القبور من أجل الميت، فإن صلى إليها فلا بأس . وفيه - أيضا -: قال سفيان الثوري : ويكره أن يصلي الرجل إلى القبور أو ما بين القبور . ثم قال: ومن صلى إلى القبور فلا إعادة عليه . سفيان
وفيه: قال: ولا تعجبني الصلاة على الجنازة في المقبرة .
وهذا قول الشافعي ورواية عن وإسحاق ; لعموم النهي عن الصلاة في المقبرة . أحمد
واستدل من رخص في صلاة الجنازة في المقبرة: بأن الصلاة على القبر جائزة بالسنة الصحيحة، فعلم أن الصلاة على الميت في القبور غير منهي عنها .
[قال ] : ثنا البخاري محمد بن المثنى: ثنا يحيى، عن هشام : أخبرني أبي، عن ، عائشة أم حبيبة ذكرتا كنيسة رأينها وأم سلمة بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عند الله [ ص: 650 ] يوم القيامة" . أن
هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراده: محرم، فتصوير صور الآدميين بانفراده محرم، كما دلت عليه نصوص أخر يأتي ذكر بعضها . وبناء القبور على المساجد
و قد خرج في "تفسير سورة نوح " من "كتابه " هذا من حديث البخاري ، فقال: ابن جرير ، عن عطاء : صارت الأوثان التي كانت في قوم ابن عباس نوح في العرب تعبد، أما "ود": كانت لكلب بدومة الجندل، وأما، "سواع": كانت لهذيل، وأما "يغوث ": فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبإ، وأما "يعوق ": فكانت لهمدان، وأما "نسر": فكانت لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت .
وقد ذكر أن الإسماعيلي: عطاء هذا هو الخراساني، الخراساني لم يسمع من . والله أعلم . ابن عباس
فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم، فلا شك في تحريمه، سواء كانت صورا مجسدة كالأصنام أو على حائط ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم، والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة أنهما رأتاها وأم سلمة بالحبشة كانت على الحيطان [ ص: 651 ] ونحوها، ولم يكن لها ظل، وكانت أم سلمة قد هاجرتا إلى وأم حبيبة الحبشة .
محرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة . فتصوير الصور على مثل صور الأنبياء والصالحين، للتبرك بها والاستشفاع بها
وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتنزه بذلك والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من أشد الناس عذابا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى .