الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239)

                                                                                                                                                                                          [قال البخاري ] : "باب: صلاة الخوف رجالا وركبانا":

                                                                                                                                                                                          راجل: قائم .

                                                                                                                                                                                          حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي: أنا أبي: نا ابن جريج عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر - نحوا من قول مجاهد : إذا اختلطوا قياما . وزاد ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإن كانوا أكثر من ذلك فليصفوا قياما وركبانا" . وخرج مسلم من حديث سفيان ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة، ركعة . [ ص: 186 ] قال: وقال ابن عمر : فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما توميء إيماء .

                                                                                                                                                                                          فجعل هذا الوجه من قول ابن عمر ، ولم يرفعه . وروى أبو إسحاق الفزاري ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر - الحديث مرفوعا، ولم يذكر في آخره: "فإذا كان خوف أكثر من ذلك " - إلى آخره .

                                                                                                                                                                                          وخرج ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه " من حديث جرير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف - فذكر صفتها بمعنى حديث موسى بن عقبة ، وقال في آخر الحديث: "فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا" . وقد خالف جريرا يحيى القطان وعبد الله بن نمير ومحمد بن بشر وغيرهم، رووه عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر - موقوفا كله .

                                                                                                                                                                                          ورواه مالك في "الموطإ"، عن نافع ، عن ابن عمر - في صفة صلاة الخوف بطوله -، وفي آخره: "فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا، مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها" .

                                                                                                                                                                                          قال مالك : قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                          وخرجه البخاري في "التفسير" من طريق مالك كذلك . [ ص: 187 ] قال ابن عبد البر : رواه مالك ، عن نافع على الشك في رفعه، ورواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه، منهم: ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى . وذكر الدارقطني أن إسحاق الطباع رواه عن مالك ورفعه من غير شك . وهذا الحديث ينبغي أن يضاف إلى الأحاديث التي اختلف في رفعها نافع وسالم، وهي أربعة سبق ذكرها بهذا الاختلاف في رفع أصل الحديث في صلاة الخوف عن نافع .

                                                                                                                                                                                          وبقي اختلاف آخر، وهو في قوله في آخر الحديث: "فإن كان خوفا أكثر من ذلك " إلى آخره; فإن هذا قد وقفه بعض من رفع أصل الحديث، كما وقفه سفيان ، عن موسى بن عقبة ، وجعله مدرجا في الحديث . وقد ذكر البخاري ; أن ابن جريج رفعه عن موسى، وخرجه من طريقه كذلك . وأما قول مجاهد المشار إليه في رواية البخاري : روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا إذا وقع الخوف صلى على كل وجهة، قائما أو راكبا أو ما قدر، ويومئ برأسه، ويتكلم بلسانه .

                                                                                                                                                                                          وروى أبو إسحاق الفزاري ، عن ابن أبي أنيسة، عن أبي الزبير ، قال: سمعت جابرا سئل عن الصلاة عند المسايفة؟ قال: ركعتين ركعتين، حيث توجهت على دابتك تومئ إيماء .

                                                                                                                                                                                          ابن أبي أنيسة، أظنه: يحيى، وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 188 ] وخرج الإسماعيلي في "صحيحه "، وخرجه من طريقه البيهقي ، من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج ، عن ابن كثير ، عن مجاهد ، قال: إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس .

                                                                                                                                                                                          قال ابن جريج : حدثني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل قول مجاهد : إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس .

                                                                                                                                                                                          وزاد: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإن كثروا فليصلوا ركبانا أو قياما على أقدامهم " - يعني: صلاة الخوف . وخرجه - أيضا - من رواية سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، عن ابن جريج ، ولفظه: عن ابن عمر - نحوا من قول مجاهد : إذا اختلطوا، فإنما هو الذكر وإشارة بالرأس .

                                                                                                                                                                                          وزاد ابن عمر : عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما وركبانا " . كذا قرأته بخط البيهقي .

                                                                                                                                                                                          وخرجه أبو نعيم في "مستخرجه على صحيح البخاري " من هذا الوجه . وعنده: "قياما وركبانا"، وهو أصح .

                                                                                                                                                                                          وهذه الرواية أتم من رواية البخاري .

                                                                                                                                                                                          ومقصود البخاري بهذا: أن صلاة الخوف تجوز على ظهور الدواب [ ص: 189 ] للركبان، كما قال تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ويعني: "رجالا": قياما على أرجلهم، فهو جمع راجل، لا جمع رجل، و"الركبان ": على الدواب .

                                                                                                                                                                                          وقد خرج فيه حديثا مرفوعا . وقد روي عن ابن عمر وجابر ، كما سبق .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المطلوب يصلي على دابته - كذلك قال عطاء بن أبي رباح ، والأوزاعي ، والشافعي وأحمد ، وأبو ثور -، وإذا كان طالبا نزل فصلى بالأرض . قال الشافعي : إلا في حال واحدة، وذلك أن يقل الطالبون عن المطلوبين . ويقطع الطالبون عن أصحابهم، فيخافون عودة المطلوبين عليهم، فإذا كانوا هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماء، انتهى .

                                                                                                                                                                                          وممن قال: يصلي على دابته ويومئ: الحسن والنخعي والضحاك ، وزاد: أنه يصلي على دابته طالبا كان أو مطلوبا، وكذا قال الأوزاعي .

                                                                                                                                                                                          واختلفت الرواية عن أحمد : هل يصلي الطالب على دابته، أم لا يصلي إلا على الأرض؟ على روايتين عنه، إلا أن يخاف الطالب المطلوب، كما قال الشافعي ، وهو قول أكثر العلماء . قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر : أما المطلوب، فلا يختلف القول فيه، أنه يصلي على ظهر الدابة . واختلف قوله في الطالب، فقالوا عنه: ينزل فيصلي على الأرض، وإن خاف على نفسه صلى وأعاد، وإن أخر فلا بأس، والقول الآخر: أنه إذا خاف أن ينقطع عن أصحابه أن يعود العدو عليه، فإنه يصلي على ظهر دابته، فإنه مثل المطلوب لخوفه، وبه أقول . انتهى .

                                                                                                                                                                                          وما حكاه عن أحمد من أن الطالب إذا خاف فإنه يصلي ويعيد، فلم يذكر [ ص: 190 ] به نصا عنه، بل قد نص على أنه مثل المطلوب .

                                                                                                                                                                                          قال - في رواية أبي الحارث -: إذا كان طالبا وهو لا يخاف العدو، فما علمت أحدا رخص له في الصلاة على ظهر الدابة، فإن خاف إن نزل أن ينقطع من الناس، ولا يأمن العدو فليصل على ظهر دابته ويلحق بالناس . فإنه في هذه الحال مثل المطلوب .

                                                                                                                                                                                          ونقل هذا المعنى عنه جماعة، منهم: أبو طالب والأثرم . وله أن يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبلها على حسب القدرة . وفي وجوب استفتاح الصلاة إلى القبلة روايتان عن أحمد : فمن أصحابنا من قال: الروايتان مع القدرة، فأما مع العجز فلا يجب . رواية واحدة . وقال أبو بكر عبد العزيز عكس ذلك،

                                                                                                                                                                                          قال: يجب مع القدرة ، ومع عدم الإمكان، روايتان . وهذا بعيد جدا -

                                                                                                                                                                                          أعني: وجوب الاستفتاح إلى القبلة مع العجز، ولعل فائدة إيجاب الإعادة بدونه . ولهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف رجالا وركبانا في جماعة، نص عليه أحمد ، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي : لا يصلون جماعة، بل فرادى; لأن المحافظة على الموقف والمتابعة لا تمكن . وقال أصحابنا ومن وافقهم: يعفى عن ذلك هاهنا، كما يعفى عن استدبار القبلة والمشي في صلوات الخوف، وإن كان مع الانفراد يمكن ترك ذلك . [ ص: 191 ] قالوا: ومتى تعذرت المتابعة لم تصح الجماعة بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية