الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          خرج أبو نعيم بإسناده عن ابن وهب، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: بينا رجل في مركب في البحر، إذ انكسر بهم مركبهم، فتعلق بخشبة، فطرحته في جزيرة من الجزائر، فخرج يمشي، فإذا هو بماء، فتبعه [ ص: 261 ] فدخل في شعب، فإذا رجل في رجليه سلسلة مربوط بها، بينه وبين الماء شبر، فقال: اسقني رحمك الله، قال: فأخذت ملء كفي ماء فرفع بالسلسلة فذهب الماء، فلما ذهب الماء حط الرجل: قال: ففعلت ذلك ثلاث مرات، أو أربعا، قال: فلما رأيت ذلك منه، قلت له: ما لك ويحك؟ قال: هو ابن آدم الذي قتل أخاه، والله ما قتلت نفس ظلما منذ قتلت أخي إلا يعذبني الله بها، لأني أول من سن القتل .

                                                                                                                                                                                          وروى تمام بن محمد الرازي في كتاب "الرهبان " حدثنا عصمة العباداني . قال: كنت أجول في بعض الفلوات، إذ بصرت ديرا وفيه صومعة، وفيها راهب، فناديته، فأشرف علي، فقلت له: من أين تأتيك الميرة؟ قال: من مسيرة شهر . قلت: حدثني بأعجب ما رأيت في هذا الموضع . قال: بينا أنا ذات يوم أدير ببصري في هذه البرية القفر وأتفكر في عظمة الله وقدرته، إذ رأيت طائرا أبيض مثل النعامة كبيرا، قد وقع على تلك الصخرة - وأومى بيده إلى صخرة بيضاء فتقيأ رأسا، ثم رجلا، ثم ساقا، فإذا هو كلما تقيأ عضوا من تلك الأعضاء التمت بعضها إلى بعض أسرع من البرق، فإذا هم بالنهوض نقره الطائر نقرة قطعه أعضاء، ثم يرجع فيبتلعه، فلم يزل على ذلك أياما، فكثر تعجبي منه، وازددت يقينا بعظمة الله، وعلمت أن لهذه الأجساد حياة بعد الموت، وذكر أنه سأل عن ذلك الرجل يوما عن أمر . فقال: أنا عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه . أمر الله هذا الملك أن يعذبني إلى يوم القيامة، قال: وقال لي الملك: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمضي بهذا الجسد إلى جزيرة في البحر الأسود التي يخرج منه هوام أهل النار، فأعذبه إلى يوم القيامة . [ ص: 262 ] وقد رويت هذه الحكاية من وجه آخر، خرجها ابن النجار في "تاريخه " من طريق السلفي، بإسناد له، إلى الحسين بن محمد بن عبيد العسكري . أخبرنا إسماعيل بن أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن النجم - سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة - أنه حضر مع يوسف بن أبي التياح ببلاد سنجاط حين فتحها، وأن سنباط حضر مجلسه، وحدثه عن راهب سماه لي، فأحضر يوسف الراهب، فحدثه الراهب بعد الامتناع، أن ملكا نفاه إلى جزيرة على البحر منفردة، قال: فرأيت يوما طيرا - فذكر شبيها بالحكاية .

                                                                                                                                                                                          ورويت من وجه آخر، من طريق أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، صاحب "السداسيات " المشهورة، عن علي بن بقاء بن محمد الوراق، حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر البزار، قال: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن أبي الأصبغ، قال: قدم علينا شيخ غريب، فذكر أنه كان نصرانيا سنين، وأنه تعبد في صومعته قال: فبينما هو جالس ذات يوم، إذ جاء طائر كالنسر، أو كالكركي . فذكر شبيها بالحكاية مختصرا .

                                                                                                                                                                                          وكل ما ورد من هذه الآثار فإنه محمول على أن الأرواح تنتقل من مكان إلى مكان، ولا يدل على أنها تستقر في موضع معين من الأرض، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          ويشهد لهذا ما روي عن شهر بن حوشب، قال: كتب عبد الله بن عمرو إلى أبي بن كعب، يسأله: أين تلتقي أرواح أهل الجنة وأرواح أهل النار . فقال: أما أرواح أهل الجنة فبالبادية، وأما أرواح الكفار، فبحضرموت، ذكره ابن منده تعليقا . [ ص: 263 ] وقالت طائفة من الصحابة: الأرواح عند الله عز وجل، وقد صح ذلك عن ابن عمرو، وقد سبق قوله . وكذلك روي عن حذيفة، خرجه ابن منده، من طريق داود الأودي، عن الشعبي، عن حذيفة، قال: إن الأرواح موقوفة عند الله تعالى، تنتظر موعدها، حتى ينفخ فيها، وهذا إسناد ضعيف، هذا لا ينافي ما وردت به الأخبار من محل الأرواح على ما سبق .

                                                                                                                                                                                          وقال طائفة: أرواح بني آدم عند أبيهم آدم عليه السلام عن يمينه وشماله وهذا يستدل له بما في "الصحيحين " عن أنس، عن أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة"، فذكر الحديث وفيه: "فلما فتح، علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة ،فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بني آدم، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى . . " وذكر بقية الحديث . وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن أرواح الكفار في السماء، وهذا مخالف لقوله تعالى: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء وكذلك حديث البراء وأبي هريرة وغيرهما، أن السماء لا تفتح لروح الكافر، وأنها تطرح طرحا، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قرأ: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ ص: 264 ] قد حمله بعضهم على أن هذه الأرواح التي عن يمين آدم وشماله هي أرواح العصاة من الموحدين وحملها بعضهم على أنها أرواح بنيه الذين لم تخلق أجسادهم بعد، وهذا في غاية البعد مع منازعة بعضهم في خلق الأرواح قبل أجسادها .

                                                                                                                                                                                          وقد ورد من حديث أبي هريرة، ما يزيل هذا الإشكال كله، من رواية أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره، عن أبي هريرة . فذكر حديث الإسراء بطوله، إلى أن قال: "ثم صعد به إلى سماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد قالوا: وقد أرسل محمد؟ قال: نعم، قال: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ، ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء، قال: فدخل فإذا هو برجل تام الخلق، لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خلق الناس، عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريل من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص من خلقه شيء; وما هذان البابان؟ قال: هذا أبوك آدم صلى الله عليه وسلم . الباب الذي عن يمينه باب الجنة، فإذا نظر من يدخل الجنة من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، فإذا نظر من يدخل من ذريته النار بكى وحزن "، وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          وقد خرجه بتمامه البزار في "مسنده "، وأبو بكر الخلال وغير واحد . وفيه التصريح بأن أرواح ذريته في الجنة والنار، وأنه ينظر إلى أهل الجنة من باب عن يمينه، وإلى أهل النار من باب عن شماله، وهذا لا يقتضي أن تكون [ ص: 265 ] الجنة والنار في السماء الدنيا، وإنما معناه أن آدم في السماء الدنيا، يفتح له بابان إلى الجنة والنار، ينظر منهما إلى أرواح ولده فيهما . وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة والنار في صلاة الكسوف وهو في الأرض وليست الجنة في الأرض . وروي أنه رآها ليلة الإسراء في السماء; ليست النار في السماء . ويشهد لذلك - أيضا - ما في حديث أبي هارون العبدي - مع ضعف حديثه - عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإسراء الطويل إلى أن ذكر السماء الدنيا: "وإذا أنا برجل كهيئته يوم خلقه الله - عز وجل - لم يتغير منه شيء، وإذا تعرض عليه أرواح ذريته، فإذا كان روح مؤمن قال: روح طيبة، وريح طيبة اجعلوا كتابه في عليين . وإذا كان روح كافر، قال: روح خبيثة، وريح خبيثة اجعلوا كتابه في سجين، قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: أبوك آدم "، وذكر الحديث . ففي هذا أنه تعرض عليه أرواح ذريته في السماء الدنيا، وأنه يأمر بجعل الأرواح في مستقرها من عليين وسجين، فدل على أن الأرواح ليس محل استقرارها في السماء الدنيا .

                                                                                                                                                                                          وزعم ابن حزم أن الله خلق الأرواح جملة قبل الأجساد، وأنه جعلها في برزخ، وذلك البرزخ عند منقطع العناصر، يعني حيث لا ماء ولا هواء ولا نار ولا تراب، وأنه إذا خلق الأجساد أدخل فيها تلك الأرواح، ثم يعيدها عند قبضها إلى ذلك البرزخ، وهو الذي رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة أسري به، عند سماء الدنيا، أرواح أهل السعادة عن يمين آدم، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره، وذلك عند منقطع العناصر، وتجعل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة . قال: وذكر محمد بن نصر المروزي، عن إسحاق بن راهويه، أنه ذكر هذا [ ص: 266 ] الذي قلناه بعينه، قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم، قال ابن حزم: وهو قول جميع أهل الإسلام، هذا مختصر ما ذكره، ولا يعرف ما قاله في هذا عن أحد من أهل الإسلام غيره . فكيف يكون قول جميع أهل الإسلام، وكلامه يقتضي أن الأرواح رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء تحت السماء الدنيا، والحديث إنما يدل على أنه إنما رآها فوق السماء الدنيا، وما حكي عن محمد بن نصر، عن إسحاق بن راهويه، فلا يدل على ما قاله بوجه، فإن محمد بن نصر حكى عن إسحاق بن راهويه إجماع أهل العلم على أن الله تعالى استخرج ذريته من صلبه قبل خلق أجسادهم واستنطقهم واستشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ولم يذكر أكثر من هذا، وهذا لا يدل على شيء مما قاله ابن حزم في مستقر الأرواح الميتة، بل ولا على أن الأرواح بقيت على حالها، بل في بعض الأحاديث أنه ردها إلى صلب آدم، ولم يقل إسحاق ولا غيره من المسلمين: إن مستقر الأرواح حيث منقطع العناصر، بل وليس هذا من جنس كلام المسلمين، بل من جنس كلام المتفلسفة .

                                                                                                                                                                                          وقد خرج ابن جرير الطبري في كتاب "الآداب " له، من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب، عن المغيرة بن عبد الرحمن، قال: قال سلمان لعبد الله بن سلام: إن مت قبلي فأخبرني بما تلقى، وإن مت قبلك أخبرتك بما ألقى، فقال له الناس: يا عبد الله كيف تخبرنا وقد مت؟ قال: ما من روح تقبض من جسد إلا كانت بين السماء والأرض حتى ترد في جسده الذي أخذت منه، وهذا لا يثبت وهو منقطع، وأبو معشر: ضعيف، وقد سبق رواية سعيد بن المسيب لهذه القصة بغير هذا اللفظ وهو الصحيح . [ ص: 267 ] وقد تقدم في سؤال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه عن الأرواح هل تموت بموت الأجساد؟ وهذا يدل على أن هذا قد قيل أيضا وهو كذلك . وقد حكي عن طائفة من المتكلمين وذهب إليه جماعة من فقهاء الأندلس قديما، منهم عبد الأعلى بن وهب ومحمد بن عمر بن لبابة، ومن متأخريهم كالسهيلي وأبي بكر بن العربي وغيرهما، قال أبو الوليد بن الفرضي في "تاريخ الأندلس ": أخبرني سليمان بن أيوب، قال: سألت محمد بن عبد الملك بن أيمن، عن الأرواح؟ فقال لي: كان محمد بن عمر بن لبابة يذهب إلى أنها تموت . وسألته عن ذلك؟ فقال: كذا كان عبد الأعلى يذهب فيها، قال ابن أيمن، فقلت له: إن عبد الأعلى كان قد طالع كتب المعتزلة ونظر في كلام المتكلمين، فقال: إنما قلدت عبد الأعلى ليس علي من هذا شيء . انتهى .

                                                                                                                                                                                          وقد استدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: كل نفس ذائقة الموت وهذا حق كما أخبر الله به، لا مرية فيه، ولكن الشأن في فهم معناه، فإن النفس يراد بها مجموع الروح والبدن . كما في قوله تعالى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقوله سبحانه وتعالى: فلا تزكوا أنفسكم وقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم وقوله تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة وقوله تعالى: يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نفس منفوسة إلا الله خالقها" . [ ص: 268 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من نفس منفوسة اليوم، يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ" . وفي رواية: "لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم " . والمراد موت الأحياء الموجودين في يومه ذلك، ومفارقة أرواحهم لأبدانهم، قبل المائة سنة، ليس المراد عدم أرواحهم واضمحلالها، فكذلك قوله سبحانه وتعالى: كل نفس ذائقة الموت إنما المراد كل مخلوق فيه حياة فإنه يذوق الموت، وتفارق روحه بدنه، فإن أراد من قال: إن النفس والروح تموت، إنها تذوق ألم مفارقة الجسد فهو حق، وإن أراد أنها تعدم وتتلاشى فليس بحق، وقد استنكر العلماء هذه المقالة، حتى قال سحنون بن سعيد وغيره: هذا قول أهل البدع، والنصوص الكثيرة الدالة على بقاء الأرواح بعد مفارقتها للأبدان ترد ذلك وتبطله . ولكن قد تخيل بعض المتأخرين موت الأرواح عند النفخة الأولى مستدلا بقوله تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ورد عليه آخرون، وقال: إنما المراد أنه يموت من لم يكن مات قبل ذلك، ولكن ورد عن طائفة من السلف في قوله: إلا من شاء الله أن المستثنى هم الشهداء . روي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم - رضي الله عنهم - . وروي ذلك عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الصور الطويل، ومن وجه آخر بإسناد أجود من إسناد حديث الصور، وهذا يدل على أن للشهداء حياة يشاركون بها الأحياء، حتى يحتاج إلى استثنائهم ممن يصعق من [ ص: 269 ] الأحياء ، وقد قيل في الأنبياء مثل ذلك أيضا .

                                                                                                                                                                                          وعلى هذا حمل طائفة من العلماء منهم البيهقي وأبو العباس القرطبي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فأكون أنا أول من يبعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقة الطور أم بعث قبلي" . وفي رواية: "أو كان ممن استثنى الله " . فإن حياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء، بلا ريب، فيشملهم حكم الأحياء أيضا، ويصعقون مع الأحياء حينئذ، لكن صعقة غشي لا صعقة موت، إلا موسى فإنه تردد فيه هل صعق أم كان ممن استثنى الله، فلم يصعق لمجازاة الله له، بصعقة الطور; ولكن على هذا التقدير فموسى مبعوث قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا محالة، فكيف تردد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك في كون الشهداء لا يصعقون والأنبياء يصعقون، إشكال أيضا، والله أعلم بمراده ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كله .

                                                                                                                                                                                          والفرق بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة . وجهين:

                                                                                                                                                                                          أحدهما: أن أرواح الشهداء تخلق لها أجساد، وهي الطير التي تكون في حواصلها، ليكمل بذلك نعيمها، ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجردة عن الأجساد، فإن الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله فعوضوا عنها بها الأجساد في البرزخ .

                                                                                                                                                                                          والثاني: أنهم يرزقون في الجنة، وغيرهم لم يثبت له في حقه مثل ذلك فإنه [ ص: 270 ] جاء أنهم يعلقون في شجر الجنة . وروي يعلقون بفتح اللام وضمها، فقيل: إنهما بمعنى، وأن المراد الأكل من الشجر، قال ابن عبد البر: وقيل: بل رواية الضم معناها الأكل، ورواية الفتح معناها التعلق . وهو التستر . وبكل حال فلا يلزم مساواتهم للشهداء في كمال تنعمهم بالأكل، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          وقد ذهب طائفة من المتكلمين إلى أن الروح عرض لا تبقى بعد الموت . وحملوا ما ورد من عذاب الأرواح ونعيمها بعد الموت على أحد أمرين: إما أن العرض الذي هو الحياة يعاد إلى جزء من البدن، أو على أن يخلق في بدن آخر .

                                                                                                                                                                                          وهذا الثاني باطل قطعا، لأنه يلزم منه أن يعذب بدن غير بدن الميت، مع روح غير روحه، فلا يعذب حينئذ بدن الميت ولا روحه، ولا يتنعمان أيضا، وهذا باطل قطعا، والأول باطل - أيضا - بالنصوص الدالة على بقاء الروح منفردة عن البدن بعد مفارقتها له، وهي كثيرة جدا وقد سبق ذكر بعضها .

                                                                                                                                                                                          وقد احتج بعضهم على فناء الأرواح وموتها بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المقابر قال: "السلام عليكم أيتها الأرواح الفانية، والأبدان البالية، والعظام النخرة، التي خرجت من الدنيا وهي بالله مؤمنة اللهم أدخل عليهم روحا منك وسلاما منا" . وهذا حديث خرجه ابن السني، من طريق عبد الوهاب بن جابر التيمي، حدثنا حبان بن علي، عن الأعمش، عن أبي رزين، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا يثبت رفعه، وعبد الوهاب لا يعرف، وحبان ضعيف، ولو صح حمل على أنه أراد بفناء الأرواح ذهابها من الأجساد [ ص: 271 ] المشاهدة، كما في قوله تعالى: كل من عليها فان وبعض الأبدان باقية، كأجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم، وإنما تفارق أرواحها أجسادها . وذكر بعضهم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل أين تكون الأرواح إذا فارقت الأجساد؟ فقال: أين يكون السراج إذا طفي، والبصر إذا عمي، ولحم المريض إذا مرض; فقالوا: إلى أين؟ قال: فكذلك الأرواح، وهذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية