الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 225 ] قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170)

                                                                                                                                                                                          أما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين .

                                                                                                                                                                                          وقد ثبت في "الصحيح " أن آخر كلمة تكلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته أن قال: "اللهم الرفيق الأعلى" وكررها حتى قبض .

                                                                                                                                                                                          وقال رجل لابن مسعود : قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأين هو؟ قال: في الجنة . وأما الشهداء فأكثر العلماء على أنهم في الجنة، وقد تكاثرت الأحاديث بذلك . ففي "صحيح مسلم " عن مسروق ، قال: سألنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن هذه الآية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فقال: أما إنا قد سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا; قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم . [ ص: 226 ] حاجة تركوا "

                                                                                                                                                                                          روى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم ، من حديث سعيد بن جبير . عن ابن عباس - رضي الله عنها -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ عنا إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا ينكلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد؟ " قال: "فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " .

                                                                                                                                                                                          وخرج أبو عبد الله بن منده وغيره، حدثنا إسماعيل بن المختار عن عطية . عن أبي سعيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أرواح الشهداء في طير خضر، ترعى في رياض الجنة، ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش، فيقول لهم الرب عز وجل: هل تعلمون كرامة أكرم من كرامة أكرمتكموها ؟ فيقولون: لا، إنا وددنا أنك رددت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى، فنقتل في سبيلك " .

                                                                                                                                                                                          وخرج أبو الشيخ الأصبهاني وغيره، من طريق عبد الله بن ميمون ، عن عمه مصعب بن سليم، عن أنس - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يبعث الله الشهداء من حواصل طير بيض كانوا في قناديل معلقة بالعرش " . وخرج الإمام أحمد ، والترمذي وصححه، من حديث عمرو بن دينار . عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه، أن رسول الله [ ص: 227 ] - صلى الله عليه وسلم – قال : "إن أرواح الشهداء في طير خضر، تعلق من شجر الجنة" . كذا رواه عمرو ، عن الزهري ، ورواه سائر أصحاب الزهري عنه، ولم يذكروا: الشهداء، إنما ذكروا نسمة المؤمن وسيأتي حديثهم إن شاء الله . وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي عبادة عيسى بن عبد الرحمن، عن الزهري ، عن عامر بن سعد ، عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله ، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد، وهو منكر، وأبو عبادة هذا: ضعيف جدا .

                                                                                                                                                                                          وخرج ابن منده ، من طريق معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سويد، أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش، تغدو ثم تروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها عز وجل في كل يوم تسلم عليه، وهذا أشبه .

                                                                                                                                                                                          وكذا قال الضحاك ، وإبراهيم التيمي ، وغيرهما من السلف، في أرواح الشهداء . وخرج ابن منده ، من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن حبان بن أبي جبلة ، قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشهداء إذا استشهدوا أنزل الله جسدا كأحسن جسد، ثم يقال لروحه: ادخلي فيه، فينظر إلى جسده الأول ما يفعل به، ويتكلم فيظن أنهم يسمعون كلامه، وينظر بهم، فيظن أنهم ينظرونه، حتى تأتيه أزواجه - يعني الحور العين - فيذهبن به " . ويشهد لهذه النصوص - أيضا - ما في "الصحيحين " عن جابر ، قال: [ ص: 228 ] قال رجل يوم أحد: أين أنا إن قتلت يا رسول الله؟ قال: "في الجنة"، فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل .

                                                                                                                                                                                          وفي "صحيح مسلم " عن أنس - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يوم بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض " . وذكر قصة عمير بن الحمام .

                                                                                                                                                                                          وفي "صحيح البخاري " عن المغيرة بن شعبة ، قال: أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن رسالة ربنا أنه من قتل صار إلى الجنة . و"فيه " - أيضا - عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، أن عمر - رضي الله عنه -، قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى" .

                                                                                                                                                                                          وفي "صحيح مسلم " عن أبي موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " .

                                                                                                                                                                                          وفي "صحيح البخاري " عن أنس - رضي الله عنه -، قال: أصيب حارثة يوم بدر - وهو غلام - فجاءت أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة صبرت واحتسبت، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ قال: "ويحك أو هبلت؟ جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس " .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 229 ] وخرج الترمذي ، والحاكم ، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت في الجنة جعفرا يطير مع الملائكة" .

                                                                                                                                                                                          وخرج الحاكم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخلت البارحة الجنة فنظرت فيها، فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكئ على سرير" .

                                                                                                                                                                                          وخرج الإمام أحمد ، وأبو يعلى ، وابن أبي الدنيا ، من حديث ثابت . عن أنس - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجبه الرؤيا الحسنة، فكان فيما يقول: "هل رأى أحد منكم رؤيا؟ " فإذا رأى الرجل الذي لا يعرفه الرؤيا، سأل عنه ، فإن أخبر عنه بمعروف كان أعجب لرؤياه، قال: فجاءت امرأة فقالت : يا رسول الله، رأيت في المنام كأني خرجت فأدخلت الجنة، فسمعت وجبة ارتجت لها الجنة، فإذا أنا بفلان وفلان وفلان، حتى عدت اثني عشر رجلا - وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية قبل ذلك فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم، فقال: "اذهبوا بهم إلى نهر البيذخ، فغمسوا فيه، فأخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، وأتوا بكراسي من ذهب فأقعدوا عليها ، وجيء بصحفة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من بسره ما شاءوا فما يقلبونها لوجه إلا أكلوا من فاكهة ما شاءوا" . قالت: وأكلت معهم، قال: فجاء البشير من تلك السرية، فقال: يا رسول الله! كان كذا وكذا، وأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلا، فقال: علي بالمرأة" فقال: " قصي رؤياك على هذا" فقال الرجل: هو كما قالت، أصيب فلان وفلان .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 230 ] وروى ابن عيينة ، عن عبد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس ، يقول: أرواح الشهداء تجول في حواصل طير خضر، تعلق في ثمر الجنة .

                                                                                                                                                                                          وروى معمر ، عن قتادة ، قال: بلغنا أن أرواح الشهداء في حواصل طير بيض، تأكل من ثمار الجنة .

                                                                                                                                                                                          وروى أبو عاصم ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الله ابن عمرو ، قال: أرواح الشهداء في أجواف طير كالزرازير، يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة .

                                                                                                                                                                                          وروى ابن المبارك ، عن زائدة، حدثنا ميسرة الأشجعي، عن عكرمة ، عن ابن عباس، عن كعب - رضي الله عنه -، قال: جنة المأوى: جنة فيها طير خضر، ترعى فيها أرواح الشهداء . كذا رواه عطية، عن ابن عباس ، قال: قلت لكعب : إني أسألك عن أشياء فإن كانت في كتاب الله فحدثني، وإن لم يكن في كتاب الله فلا تحدثني . فذكر مسائل، فقال كعب : ما سألتني عن شيء إلا وهو في كتاب الله، قال: وأما جنة المأوى فإنها جنة فيها أرواح الشهداء، في أجواف طير خضر، تأوي إلى قناديل الجنة .

                                                                                                                                                                                          وروى أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثنا عمرو بن عمر الأحموسي، عن السفر بن نسير، قال: سئل أبو الدرداء عن أرواح الشهداء فقال: هي طير خضر، معلقة في قناديل تحت العرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها .

                                                                                                                                                                                          وروى ليث عن أبي قيس، عن هذيل، عن ابن مسعود ، قال: أرواح [ ص: 231 ] الشهداء طير خضر في قناديل تحت العرش تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديلها . وروي عن مجاهد ، أنه قال: ليس الشهداء في الجنة، ولكنهم يرزقون منها . فروى آدم بن أبي إياس ، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون الآية . قال: يقول: أحياء عند ربهم يرزقون من ثمر الجنة، ويجدون ريحها وليسوا فيها .

                                                                                                                                                                                          وروى ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال: ليس هم في الجنة، ولكنهم يأكلون من ثمارها، ويجدون ريحها . وقد يستدل لقوله بما رواه ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس رضي الله عن هما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا"

                                                                                                                                                                                          وخرجه ابن منده ، ولفظه: "على بارق نهر في الجنة" .

                                                                                                                                                                                          وهذا يدل على أن النهر خارج من الجنة، وابن إسحاق مدلس، وليس يصرح بالحديث هنا، ولعل هذا في عموم الشهداء، والذين في القناديل التي تحت العرش خواصهم، ولعل المراد بالشهداء هنا من هو شهيد من غير قتل . [ ص: 232 ] في سبيل الله، كالمطعون والمبطون والغريق وغيرهم ممن ورد النص بأنه شهيد . والأحاديث السابقة كلها فيمن قتل في سبيل الله، وبعضها صريح في ذلك . وفي بعضها أن الآية نزلت في ذلك، وهو قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية، والآية نص في المقتول في سبيل الله . وقد يطلق الشهيد على من حقق الإيمان وشهد بصحته بقوله، كما قال تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في هذه الآية يقول: يشهدون على أنفسهم بالإيمان بالله . الآية،

                                                                                                                                                                                          وروى سفيان ، عن رجل، عن مجاهد ، قال: كل مؤمن صديق وشهيد . ثم قرأ: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وخرج ابن أبي حاتم، من رواية رشدين بن سعد ، عن ابن عقيل ، عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: كلكم صديق وشهيد، قيل له: ما تقول يا أبا هريرة ؟ قال: اقرأوا: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وخرج ابن جرير ، من طريق إسماعيل بن يحيى التيمي ، [ ص: 233 ] عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلم ، عن البراء بن عازب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مؤمنو أمتي شهداء" ثم تلا رسول الله هذه الآية: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وإسماعيل هذا: ضعيف جدا .

                                                                                                                                                                                          ويعضد هذا ما ورد في تفسير قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا من شهادة هذه الأمة للأنبياء عليهم السلام بتبليغ رسالاتهم .

                                                                                                                                                                                          وبكل حال فالأحاديث المتقدمة كلها في الشهيد المقتول في سبيل الله عز وجل لا تحتمل غير ذلك، وإنما النظر في حديث ابن إسحاق هذا والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية