الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 698 ] سورة الأنبياء

                                                                                                                                                                                          [قال البخاري ] : قوله تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة

                                                                                                                                                                                          حدثنا مسدد ، ثنا يحيى، عن الأعمش ، حدثني شقيق، حدثني حذيفة . قال: كنا جلوسا عند عمر ، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله . قال: إنك عليه - أو عليها - لجريء . قلت: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي . قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين ، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: يكسر أم يفتح؟ قال: يكسر . قال: إذن لا يغلق أبدا .

                                                                                                                                                                                          قلنا: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأل حذيفة ، فأمرنا مسروقا فسأله، فقال: الباب عمر .

                                                                                                                                                                                          أصل الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار، ويكون تارة بما يسوء، وتارة بما يسر، كما قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقال: وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون [ ص: 699 ] وغلب في العرف استعمال الفتنة في الوقوع فيما يسوء .

                                                                                                                                                                                          والفتنة نوعان: أحدهما: خاصة، تختص بالرجل في نفسه،

                                                                                                                                                                                          والثاني: عامة . تعم الناس . فالفتنة الخاصة: ابتلاء الرجل في خاصة نفسه بأهله وماله وولده وجاره . وقد قال تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة فإن ذلك غالبا يلهي عن طلب الآخرة، والاستعداد لها، ويشغل عن ذلك . ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر، ورأى الحسن والحسين يمشيان ويعثران وهما صغيران، نزل فحملهما، ثم قال: "صدق الله ورسوله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران فلم أصبر" .

                                                                                                                                                                                          وقد ذم الله تعالى من ألهاه ماله وولده عن ذكره، فقال: لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون فظهر بهذا: أن الإنسان يبتلى بماله وولده وأهله وبجاره المجاور له، ويفتتن بذلك، فتارة يلهيه الاشتغال به عما ينفعه في آخرته، وتارة تحمله محبته على أن يفعل لأجله بعض ما لا يحبه الله، وتارة يقصر في حقه الواجب عليه . وتارة يظلمه ويأتي إليه ما يكرهه الله من قول أو فعل، فيسأل عنه ويطالب فإذا حصل للإنسان شيء من هذه الفتن الخاصة، ثم صلى أو صام أو تصدق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر كان ذلك كفارة له، وإذا كان الإنسان [ ص: 700 ] تسوؤه سيئته، ويعمل لأجلها عملا صالحا، كان ذلك دليلا على إيمانه .

                                                                                                                                                                                          وفي "مسند بقي بن مخلد" عن رجل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان يا رسول الله؟ قال: "أن تؤمن بالله ورسوله "، فأعادها ثلاثا، فقال له في الثالثة: "أتحب أن أخبرك ما صريح الإيمان؟ " فقال: ذلك الذي أردت، فقال: "إن صريح الإيمان إذا أسأت أو ظلمت أحدا، عبدك أو أمتك، أو واحدا من الناس، صمت أو تصدقت وإذا أحسنت استبشرت " .

                                                                                                                                                                                          وأما الفتن العامة: فهي التي تموج موج البحر، وتضطرب، ويتبع بعضها بعضا كأمواج البحر، فكان أولها فتنة قتل عثمان - رضي الله عنه - وما نشأ منها من افتراق قلوب المسلمين، وتشعب أهوائهم وتكفير بعضهم بعضا، وسفك بعضهم دماء بعض، وكان الباب المغلق الذي بين الناس وبين الفتن عمر - رضي الله عنه - وكان قتل عمر كسرا لذلك الباب، فلذلك لم يغلق ذلك الباب بعده أبدا .

                                                                                                                                                                                          وكان حذيفة أكثر الناس سؤالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفتن، وأكثر الناس علما بها، فكان عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بالفتن العامة والخاصة، وهو حدث عمر تفاصيل الفتن العامة، وبالباب الذي بين الناس وبينها، وأنه هو عمر ، ولهذا قال: إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، والأغاليط: جمع أغلوطة، وهي التي يغالط بها . واحدها: "أغلوطة" و"مغلطة"، والمعنى: أنه حدثه حديثا حقا . ليس فيه مرية، ولا إيهام .

                                                                                                                                                                                          وهذا مما يستدل به على أن رواية مثل حذيفة يحصل بها لمن سمعها العلم اليقيني الذي لا شك فيه، فإن حذيفة ذكر أن عمر علم ذلك وتيقنه كما تيقن [ ص: 701 ] أن دون غد الليلة لما حدثه به من الحديث الذي لا يحتمل غير الحق والصدق .

                                                                                                                                                                                          وقد كانت الصحابة تعرف في زمان عمر أن بقاء عمر أمان للناس من الفتن .

                                                                                                                                                                                          وفي "مسند الإمام أحمد " أن خالد بن الوليد لما عزله عمر ، قال له رجل: اصبر أيها الأمير، فإن الفتن قد ظهرت، فقال خالد : وابن الخطاب حي، إنما يكون بعده" .

                                                                                                                                                                                          وقد روي من حديث عثمان بن مظعون ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى عمر : غلق الفتنة وقال: "لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش هذا بين أظهركم " . خرجه البزار .

                                                                                                                                                                                          وروي نحوه من حديث أبي ذر . وروى كعب ، أنه قال لعمر : أجدك مصراع الفتنة، فإذا فتح لم يغلق أبدا .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية