الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 477 ]

                                                                                                                                                                                          سورة الأعراف

                                                                                                                                                                                          قوله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31) قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون

                                                                                                                                                                                          أما قوله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد فإنها نزلت بسبب طواف المشركين بالبيت عراة، وقد صح هذا عن ابن عباس ، وأجمع عليه المفسرون من السلف بعده . وقد ذكر الله هذه الآية عقب ذكر قصة آدم عليه السلام، وما جرى له ولزوجه مع الشيطان حتى أخرجهما من الجنة، ونزع عنهما لباسهما حتى بدت عوراتهما، فقال تعالى: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينـزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ثم قال: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون والمراد بالفاحشة هنا: نزع ثيابهم عند الطواف بالبيت، وطوافهم عراة كما [ ص: 478 ] كان عادة أهل الجاهلية .

                                                                                                                                                                                          ثم قال بعد ذلك: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد

                                                                                                                                                                                          والمراد بذلك: أن يستروا عوراتهم عند المساجد، فدخل في ذلك الطواف والصلاة والاعتكاف وغير ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقال طائفة من العلماء: إن الآية تدل على أخذ الزينة عند المساجد . وذلك قدر زائد على ستر العورة، وإن كان ستر العورة داخلا فيه وهو سبب نزول الآيات، فإن كشف العورة فاحشة من الفواحش، وسترها من الزينة، ولكنه يشمل مع ذلك لبس ما يتجمل به ويتزين به عند مناجاة الله وذكره ودعائه والطواف ببيته، ولهذا قال تعالى عقب ذلك: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة

                                                                                                                                                                                          وروى موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزين له " .

                                                                                                                                                                                          خرجه الطبراني وغيره .

                                                                                                                                                                                          وقد روى جماعة هذا الحديث عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن عمر بالشك في ذلك .

                                                                                                                                                                                          خرجه البزار وغيره . وخرجه أبو داود كذلك بالشك، ولم يذكر فيه: "فإن الله أحق من [ ص: 479 ] تزين له" .

                                                                                                                                                                                          وروي ذكر التزين من قول ابن عمر ، فروي عن أيوب، عن نافع ، قال: رآني ابن عمر أصلي في ثوب واحد، قال: ألم أكسك ثوبين؟ قلت: نعم، قال: فلو أرسلتك في حاجة كنت تذهب هكذا؟ قلت: لا، قال: فالله أحق أن تزين له .

                                                                                                                                                                                          أخرجه الحاكم وغيره .

                                                                                                                                                                                          والمحفوظ في هذا الحديث: رواية من رواه بالشك في رفعه - قاله الدارقطني .

                                                                                                                                                                                          وممن أمر بالصلاة في ثوبين: عمر ، وابن مسعود ، وقال ابن مسعود : إذ وسع الله فهو أزكى . واستدل من قال: إن المأمور به من الزينة أكثر من ستر العورة التي يجب سترها عن الأبصار، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء، وبأن من صلى عاريا خاليا لا تصح صلاته، وبأن المرأة الحرة لا تصح صلاتها بدون خمار، مع أنه يباح لها وضع خمارها عند محارمها، فدل على أن الواجب في الصلاة أمر زائد على ستر العورة التي يجب سترها عن النظر .

                                                                                                                                                                                          * * *

                                                                                                                                                                                          [ ص: 480 ] واعلم، أن الصلاة في الثوب الحسن غير مكروه، إلا أن يخشى منه الالتهاء عن الصلاة أو حدوث الكبر، وقد كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم، يقوم بها الليل، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يلبس حللا من حلل اليمن، وبرودا حسنة، ولم ينقل عنه أنه كان يتجنب الصلاة فيها، وإنما ترك هذه الخميصة لما وقع له من تلك النظرة إلى علمها، وقد قال الله عز وجل: خذوا زينتكم عند كل مسجد وسبق قول ابن عمر : الله أحق أن يتزين له . وخرج أبو داود في "مراسيله " من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة - مما تعجبه: الثياب النقية والريح الطيبة .

                                                                                                                                                                                          ولم يزل علماء السلف يلبسون الثياب الحسنة، ولا يعدون ذلك كبرا . وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا؟ فقال: "ليس ذلك من الكبر، إن الله جميل يحب الجمال " .

                                                                                                                                                                                          وقال جرير بن حازم : رأيت على الحسن طيلسانا كرديا حسنا، وخميصة أصبهانية جيدة، ذات أعلام خضر وحمر، أزرتها من إبريسم، وكان يرتدي ببرد له يمان أسود مصلب، وبرد عدني وقباء من برد حبرة، وعمامة سوداء .

                                                                                                                                                                                          وقال حرب: سألت إسحاق عن الصلاة في المنديل، وأريته منديلا له أعلام خضر وخطوط ؟ فقال: جائز .

                                                                                                                                                                                          * * *

                                                                                                                                                                                          [ ص: 481 ] وفي "صحيح مسلم " عن ابن عباس ، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، وتقول:


                                                                                                                                                                                          اليوم يبدو بعضه أو كله . فما بدا منه فلا أحله



                                                                                                                                                                                          قال: فنزلت: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية