الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون

                                                                                                                                                                                          وروى هشام بن عمار في كتاب "المبعث " بإسناده عن أبي سلام الحبشي . قال: حدثت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "فضلت على من قبلي بست ولا فخر"، [ ص: 617 ] فذكر منها، قال: "وأعطيت جوامع الكلم، وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءا بالليل إلى الصباح، فجمعها لي ربي في آية واحدة: سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم " .

                                                                                                                                                                                          فجوامع الكلم التي خص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعان:

                                                                                                                                                                                          أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله عز وجل: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون قال الحسن: لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به، ولا شرا إلا نهت عنه .

                                                                                                                                                                                          والثاني: ما هو في كلامه - صلى الله عليه وسلم -، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                          * * *

                                                                                                                                                                                          فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب: "السير" عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" أو قال: "على كل خلق" . هكذا خرجها مرسلة، وبالشك في "كل شيء" أو "كل خلق" . وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإحسان، فيكون كل شيء أو كل مخلوق هو المكتوب عليه، والمكتوب هو الإحسان .

                                                                                                                                                                                          وقيل: إن المعنى: إن الله كتب الإحسان إلى كل شيء، أو في كل شيء، [ ص: 618 ] أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء، فيكون المكتوب عليه غير مذكور، وإنما المذكور المحسن إليه .

                                                                                                                                                                                          ولفظ: "الكتابة" يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافا لبعضهم، وإنما يعرف استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم، إما شرعا، كقوله تعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقوله: كتب عليكم الصيام كتب عليكم القتال أو فيما هو واقع قدرا لا محالة، كقوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون وقوله: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قيام شهر رمضان: "إني خشيت أن يكتب عليكم " وقال: "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي " . وقال: "كتب على ابن آدم حظه من الزنى، وهو مدرك ذلك لا محالة" .

                                                                                                                                                                                          وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان، وقد أمر الله تعالى به . فقال: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وقال: وأحسنوا إن الله يحب المحسنين وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب، كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة، والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره . [ ص: 619 ] وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها .

                                                                                                                                                                                          وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب . وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب .

                                                                                                                                                                                          والإحسان في ترك المحرمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: وذروا ظاهر الإثم وباطنه فهذا القدر من الإحسان فيها واجب .

                                                                                                                                                                                          وأما الإحسان في الصبر على المقدورات، فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير سخط ولا جزع .

                                                                                                                                                                                          والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم: القيام بواجبات الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب .

                                                                                                                                                                                          والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأوحاها من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه . وهذا النوع هو الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال، فقال . "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" والقتلة والذبحة بالكسر، أي: الهيئة . والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل . وهذا يدل على وجوب الإسراع [ ص: 620 ] في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه . وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة، وأسهل وجوه قتل آدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حق الكفار: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب وقال: سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق وقد قيل: إنه عين الموضع الذي يكون الضرب فيه أسهل على المقتول وهو فوق العظام دون الدماغ، ووصى دريد ابن الصمة قاتله أن يقتله كذلك .

                                                                                                                                                                                          وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية تغزو في سبيل الله قال لهم: " لا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا " .

                                                                                                                                                                                          وخرج أبو داود ، وابن ماجه من حديث ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعف الناس قتلة أهل الإيمان " .

                                                                                                                                                                                          وخرج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين وسمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن المثلة .

                                                                                                                                                                                          وخرجه البخاري من حديث عبد الله بن يزيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن المثلة . وخرج الإمام أحمد من حديث يعلى بن مرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: لا تمثلوا بعبادي " . [ ص: 621 ] وخرج - أيضا - من حديث رجل من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مثل بذي روح، ثم لم يتب مثل الله به يوم القيامة" .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية