الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          قوله تعالى: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة [ ص: 376 ] رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف العلماء في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها":

                                                                                                                                                                                          فقالت طائفة: المراد بالفرائض الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          والمراد: أعطوا الفروض المقدرة لمن سماها الله لهم، فما بقي بعد هذه الفروض، فيستحقه أولى الرجال، والمراد بالأولى: الأقرب، كما يقال: هذا يلي هذا، أي: يقرب منه، فأقرب الرجال هو أقرب العصبات، يستحق الباقي بالتعصيب، وبهذا المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة، منهم: الإمام أحمد ، وإسحاق بن راهويه ، نقله عنهما إسحاق بن منصور . وعلى هذا، فإذا اجتمع بنت وأخت وعم، أو ابن عم، أو ابن أخ . فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة، وهذا قول ابن عباس ، وكان يتمسك بهذا الحديث، ويقر بأن الناس كلهم على خلافه، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضا .

                                                                                                                                                                                          وقال إسحاق: إذا كان مع البنت والأخت عصبة، فالعصبة أولى، وإن لم يكن معهما أحد، فالأخت لها الباقي، وحكي عن ابن مسعود ، أنه قال: البنت عصبة من لا عصبة له، ورد بعضهم هذا، وقال: لا يصح عن ابن مسعود . وكان ابن الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس ، ثم رجعا عنه .

                                                                                                                                                                                          وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخت مع البنت عصبة لها ما فضل، [ ص: 377 ] منهم: عمر ، وعلي، وعائشة ، وزيد، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل . وتابعهم سائر العلماء . وروى عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج : سألت ابن طاووس عن ابنة وأخت، فقال: كان أبي يذكر عن ابن عباس ، عن رجل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها شيئا، وكان طاووس لا يرضى بذلك الرجل، قال: وكان أبي يشك فيها، ولا يقول فيها شيئا، وقد كان يسأل عنها . والظاهر - والله أعلم -: أن مراد طاووس هو هذا الحديث، فإن ابن عباس لم يكن عنده نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ميراث الأخت مع البنت، إنما كان يتمسك بمثل عموم هذا الحديث . وما ذكره طاووس أن ابن عباس رواه عن رجل وأنه لا يرضاه، فابن عباس أكثر رواياته للحديث عن الصحابة، والصحابة كلهم عدول قد رضي الله عنهم، وأثنى عليهم، فلا عبرة بعد ذلك بعدم رضا طاووس .

                                                                                                                                                                                          وفي "صحيح البخاري " عن أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شرحبيل . قال: جاء رجل إلى أبي موسى ، فسأله عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم . فقال: للابنة النصف، وللأخت ما بقي وائت ابن مسعود فسيتابعني، فأتى ابن مسعود ، فذكر ذلك له، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين . لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي، فللأخت، قال: فأتينا أبا موسى ، فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . وفيه - أيضا - عن الأعمش ، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد ، قال: [ ص: 378 ] قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: النصف للابنة، والنصف للأخت، ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يذكره .

                                                                                                                                                                                          وخرجه أبو داود من وجه آخر عن الأسود ، وزاد فيه: ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ حي .

                                                                                                                                                                                          واستدل ابن عباس لقوله بقول الله عز وجل: قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وكان يقول: أأنتم أعلم أم الله؟ يعني أن الله لم يجعل لها النصف إلا مع عدم الولد، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت .

                                                                                                                                                                                          والصواب: قول عمر والجمهور، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك، لأن المراد بقوله: فلها نصف ما ترك بالفرض، وهذا مشروط بعدم الولد بالكلية، ولهذا قال بعده: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك يعني بالفرض، والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، وكذلك الأختان فصاعدا إنما يستحقون الثلثين مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، فإن كان هناك ولد، فإن كان ذكرا، فهو مقدم على الإخوة مطلقا ذكورهم وإناثهم، وإن لم يكن هناك ولد ذكر، بل أنثى، فالباقي بعد فرضها يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق، فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها، فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات كالعم وابنه; وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطا لها، فيتعين تقديمها عليه، لامتناع مشاركته لها . [ ص: 379 ] فمفهوم الآية: أن الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض، وهذا حق، ليس مفهومها أن الأخت تسقط بالبنت، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها، يدل عليه قوله تعالى: وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثى لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات، وإنما وجود الولد الأنثى يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته كله، فكما أن الولد إن كان ذكرا، منع الأخ من الميراث، وإن كان أنثى، لم يمنعه الفاضل عن ميراثها، وإن منعه حيازة الميراث، فكذلك الولد إن كان ذكرا منع الأخت الميراث بالكلية، وإن كان أنثى، منعت الأخت أن يفرض لها النصف، ولم تمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله: "فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر" . فقد قيل: إن المراد به العصبة البعيد خاصة، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، دون العصبة القريب، بدليل أن الباقي بعد الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى إذا كان العصبة قريبا، كالأولاد والإخوة بالاتفاق، فكذلك الأخت مع البنت بالنص الدال عليه . وأيضا فإنه يخص منه هذه الصور بالاتفاق، وكذلك يخص منه المعتقة مولاة النعمة بالاتفاق، فتخص صورة الأخت مع البنت بالنص .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة آخرون: المراد بقوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها": ما يستحقه ذوو الفروض في الجملة، سواء أخذوه بفرض أو بتعصيب طرأ لهم، والمراد بقوله: "فما بقي، فلأولى رجل ذكر" العصبة الذي ليس له فرض بحال . ويدل عليه أنه قد روي الحديث بلفظ آخر، وهو: "اقسموا المال بين أهل [ ص: 380 ] الفرائض على كتاب الله "، فدخل في ذلك كل من كل من كان من أهل الفروض بوجه من الوجوه .

                                                                                                                                                                                          وعلى هذا، فما تأخذه الأخت مع أخيها، أو ابن عمها إذا عصبها هو داخل في هذه القسمة، لأنها من أهل الفرائض في الجملة، فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت .

                                                                                                                                                                                          وقالت فرقة أخرى: المراد بأهل الفرائض في قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، وقوله: "اقسموا المال بين أهل الفرائض "، جملة من سماه الله في كتابه من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلهم، فإن كل ما يأخذه الورثة، فهو فرض فرضه الله لهم، سواء كان مقدرا أو غير مقدر، كما قال بعد ذكر ميراث الوالدين والأولاد:

                                                                                                                                                                                          فريضة من الله وفيهم ذو فرض وعصبة، وكما قال: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا وهذا يشمل العصبات وذوي الفروض، فكذلك قوله: "اقسموا الفرائض بين أهلها على كتاب الله " . يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله، فإن قسم على ذلك ثم فضل منه شيء، فيختص بالفاضل أقرب الذكور من الورثة . وكذلك إن لم يوجد في كتاب الله تصريح بقسمته بين من سماه الله من الورثة، فيكون حينئذ المال لأولى رجل ذكر منهم .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية