قال صاحب " المنازل " :
الدرجة الثانية : إجراء الخبر على ظاهره . وهو أن تبقى أعلام توحيد العامة الخبرية على ظواهرها . ولا يتحمل البحث عنها تعسفا . ولا يتكلف لها تأويلا . ولا يتجاوز ظواهرها تمثيلا . ولا يدعي عليها إدراكا أو توهما .
يشير الشيخ - رحمه الله وقدس روحه - بذلك إلى أن حفظ حرمة نصوص . وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أذهان العامة . ولا يعني بالعامة الجهال ، بل عامة الأمة ، كما قال الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها مالك رحمه الله - وقد سئل عن قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فأطرق مالك ، حتى علاه الرحضاء ، ثم قال : الاستواء معلوم ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
[ ص: 85 ] ففرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة ، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر . وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شاف ، عام في جميع مسائل الصفات .
فمن سأل عن قوله : ( إنني معكما أسمع وأرى ) كيف يسمع ويرى ؟ أجيب بهذا الجواب بعينه . فقيل له : السمع والبصر معلوم . والكيف غير معقول .
وكذلك من سأل عن العلم ، والحياة ، والقدرة ، والإرادة ، والنزول ، والغضب ، والرضا ، والرحمة ، والضحك ، وغير ذلك . فمعانيها كلها مفهومة . وأما كيفيتها فغير معقولة ؛ إذ تعقل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها . فإذا كان ذلك غير معقول للبشر ، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات ؟
والعصمة النافعة في هذا الباب : أن يوصف الله بما وصف به نفسه . وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل . بل تثبت له الأسماء والصفات ، وتنفى عنه مشابهة المخلوقات . فيكون إثباتك منزها عن التشبيه . ونفيك منزها عن التعطيل . فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل . ومن شبهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثل . ومن قال : استواء ليس كمثله شيء . فهو الموحد المنزه .
وهكذا الكلام في السمع ، والبصر ، والحياة ، والإرادة ، والقدرة ، واليد ، والوجه ، والرضا ، والغضب ، والنزول والضحك ، وسائر ما وصف الله به نفسه .
والمنحرفون في هذا الباب قد أشار الشيخ إليهم بقوله : لا يتحمل البحث عنها تعسفا ؛ أي لا يتكلف التعسف عن البحث عن كيفياتها . والتعسف سلوك غير الطريق . يقال : ركب فلان التعاسيف في سيره . إذا كان يسير يمينا وشمالا ، جائرا عن الطريق .
ولا يتكلف لها تأويلا . أراد بالتأويل هاهنا التأويل الاصطلاحي . وهو صرف اللفظ عن ظاهره وعن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح .
[ ص: 86 ] وقد حكى غير واحد من العلماء إجماع السلف على تركه . وممن حكاه البغوي ، و في رسالته النظامية ، بخلاف ما سلكه في شامله وإرشاده وممن حكاه أبو المعالي الجويني . سعد بن علي الزنجاني
وقبل هؤلاء خلائق من العلماء لا يحصيهم إلا الله .
ولا يتجاوز ظاهرها تمثيلا . أي لا يمثلها بصفات المخلوقين .
وفي قوله : لا يتجاوز ظاهرها ، إشارة لطيفة . وهي أن ظواهرها لا تقتضي التمثيل ، كما تظنه المعطلة النفاة ، وأن التمثيل تجاوز لظواهرها إلى ما لا تقتضيه ، كما أن تأويلها تكلف ، وحمل لها على ما لا تقتضيه . فهي لا تقتضي ظواهرها تمثيلا ، ولا تحتمل تأويلا ، بل إجراء على ظواهرها بلا تأويل ولا تمثيل . فهذه طريقة السالكين بها سواء السبيل .
وأما قوله : ولا يدعي عليها إدراكا ؛ أي لا يدعي عليها استدراكا ولا فهما ، ولا معنى غير فهم العامة ، كما يدعيه أرباب الكلام الباطل ، المذموم بإجماع السلف .
وقوله : ولا توهما ؛ أي لا يعدل عن ظواهرها إلى التوهم .
والتوهم نوعان : توهم كيفية . لا تدل عليه ظواهرها ، أو توهم معنى غير ما تقتضيه ظواهرها . وكلاهما توهم باطل . وهما توهم تشبيه وتمثيل ، أو تحريف وتعطيل .
وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنة ، ومقداره في العلم ، وأنه بريء مما رماه به أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل ، على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك ، كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب ، والمعتزلة بأنهم نوابت حشوية . وذلك ميراث من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه ورمي أصحابه رضي الله عنهم بأنهم صبأة . قد [ ص: 87 ] ابتدعوا دينا محدثا . وميراث لأهل الحديث والسنة من نبيهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، رضوان الله عليهم أجمعين . بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة . وقدس الله روح الشافعي حيث يقول ، وقد نسب إلى الرفض :
إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
ورضي الله عن شيخنا أبي العباس ابن تيمية ، حيث يقول :إن كان نصبا حب صحب محمد فليشهد الثقلان أني ناصبي
فإن كان تجسيما ثبوت صفاته وتنزيهها عن كل تأويل مفتري
فإني - بحمد الله ربي - مجسم هلموا شهودا واملئوا كل محضر