إمام الحرمين
الإمام الكبير ، شيخ الشافعية ، إمام الحرمين أبو المعالي ، عبد الملك ابن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني ، ثم النيسابوري ، ضياء الدين الشافعي ، صاحب التصانيف .
ولد في أول سنة تسع عشرة وأربعمائة . [ ص: 469 ]
وسمع من أبيه ، وأبي سعد النصرويي ، وأبي حسان محمد بن أحمد المزكي ، ومنصور بن رامش ، وعدة . وقيل : إنه سمع حضورا من صاحب الأصم علي بن محمد الطرازي .
وله أربعون حديثا سمعناها .
روى عنه : أبو عبد الله الفراوي ، وزاهر الشحامي ، وأحمد بن سهل المسجدي ، وآخرون .
وفي " فنون " ابن عقيل : قال عميد الملك : قدم أبو المعالي ، فكلم أبا القاسم بن برهان في العباد ، هل لهم أفعال ؟ فقال أبو المعالي : إن وجدت أية تقتضي ذا فالحجة لك ، فتلا : ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ومد بها صوته ، وكرر هم لها عاملون وقوله : لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون أي كانوا مستطيعين . فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل ، فقال : والله إنك بارد تتأول صريح كلام الله لتصحح بتأويلك كلام الأشعري . وأكله ابن برهان بالحجة ، فبهت .
قال : كان أبو سعد السمعاني أبو المعالي ، إمام الأئمة على الإطلاق ، مجمعا على إمامته شرقا وغربا ، لم تر العيون مثله . تفقه على والده ، وتوفي أبوه ولأبي المعالي عشرون سنة ، فدرس مكانه ، وكان يتردد إلى مدرسة ، وأحكم الأصول على البيهقي أبي القاسم الإسفراييني الإسكاف . وكان ينفق من ميراثه ومن معلوم له ، إلى أن ظهر التعصب بين الفريقين ، واضطربت [ ص: 470 ] الأحوال ، فاضطر إلى السفر عن نيسابور ، فذهب إلى المعسكر ، ثم إلى بغداد ، وصحب الوزير أبا نصر الكندري مدة يطوف معه ، ويلتقي في حضرته بكبار العلماء ، ويناظرهم ، فتحنك بهم ، وتهذب ، وشاع ذكره ، ثم حج ، وجاور أربع سنين يدرس ، ويفتي ، ويجمع طرق المذهب ، إلى أن رجع إلى بلده بعد مضي نوبة التعصب فدرس بنظامية نيسابور ، واستقام الأمر ، وبقي على ذلك ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع ، مسلما له المحراب والمنبر والخطبة والتدريس ، ومجلس الوعظ يوم الجمعة ، وظهرت تصانيفه ، وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلبة ، كان يقعد بين يديه نحو من ثلاثمائة ، وتفقه به أئمة .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد ، أخبرنا الحافظ أبو محمد المنذري قال : توفي والد أبي المعالي ، فأقعد مكانه ولم يكمل عشرين سنة ، فكان يدرس ، وأحكم الأصول على أبي القاسم الإسكاف وجاور ثم رجع . . إلى أن قال : وسمع من محمد بن إبراهيم المزكي ، وأبي سعد بن عليك ، وفضل الله بن أبي الخير الميهني ، وأبي محمد الجوهري البغدادي ، وأجاز له ، وسمع من أبو نعيم الحافظ الطرازي . كذا قال .
وقال السمعاني : قرأت بخط أبي جعفر محمد بن أبي علي : سمعت أبا إسحاق الفيروزابادي يقول : تمتعوا من هذا الإمام ، فإنه نزهة هذا الزمان - يعني أبا المعالي الجويني - . [ ص: 471 ]
وقرأت بخط أبي جعفر أيضا : سمعت أبا المعالي يقول : قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا ، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة ، وركبت البحر الخضم ، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام ، كل ذلك في طلب الحق ، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد ، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق ، عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره ، فأموت على دين العجائز ، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص : لا إله إلا الله ، فالويل لابن الجويني .
قلت : كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به لا متنا ولا إسنادا . ذكر في كتاب " البرهان " حديث معاذ في القياس فقال : هو مدون في الصحاح ، متفق على صحته . [ ص: 472 ]
قلت : بل مداره على الحارث بن عمرو ، وفيه جهالة ، عن رجال من أهل حمص ، عن معاذ . فإسناده صالح .
قال المازري في شرح " البرهان " في قوله : إن الله يعلم الكليات لا الجزئيات : وددت لو محوتها بدمي .
وقيل : لم يقل بهذه المسألة تصريحا ، بل ألزم بها لأنه قال بمسألة الاسترسال فيما ليس بمتناه من نعيم أهل الجنة ، فالله أعلم .
قلت : هذه هفوة اعتزال ، هجر أبو المعالي عليها ، وحلف أبو القاسم القشيري لا يكلمه ، ونفي بسببها ، فجاور وتعبد ، وتاب - ولله الحمد - منها ، كما أنه في الآخر رجح مذهب السلف في الصفات وأقره . [ ص: 473 ]
قال الفقيه غانم الموشيلي : سمعت الإمام أبا المعالي يقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام .
قال أبو المعالي في كتاب " الرسالة النظامية " : اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة ، وامتنع على أهل الحق فحواها فرأى بعضهم تأويلها ، والتزم ذلك في القرآن ، وما يصح من السنن ، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها ، وتفويض معانيها إلى الرب - تعالى - والذي نرتضيه رأيا ، وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة ، فالأولى الاتباع ، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة ، وقد درج صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة ، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها ، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها ، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما ; لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، فإذا تصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل ; كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع ، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ، ويكل معناها إلى [ ص: 474 ] الرب فليجر أية الاستواء والمجيء وقوله : لما خلقت بيدي ويبقى وجه ربك و تجري بأعيننا وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه .
قال الحافظ محمد بن طاهر : سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب - وكان يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي في الكلام - فقال : سمعت أبا المعالي اليوم يقول : يا أصحابنا : لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به .
وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال : حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال : دخلت على أبي المعالي في مرضه ، فقال : اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة ، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور .
قال محمد بن طاهر : حضر المحدث أبو جعفر الهمذاني مجلس وعظ أبي المعالي ، فقال : كان الله ولا عرش ، وهو الآن على ما كان عليه . فقال أبو [ ص: 475 ] جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها ، ما قال عارف قط : يا ألله ! إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا ، أو قال : فهل عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها ؟ فقال : يا حبيبي ! ما ثم إلا الحيرة . ولطم على رأسه ، ونزل ، وبقي وقت عجيب ، وقال فيما بعد : حيرني الهمذاني .
لأبي المعالي كتاب " نهاية المطلب في المذهب " ثمانية أسفار ، وكتاب " الإرشاد في أصول الدين " وكتاب " الرسالة النظامية في الأحكام الإسلامية " وكتاب " الشامل في أصول الدين " ، وكتاب " البرهان في أصول الفقه " ، وكتاب " مدارك العقول " لم يتمه ، وكتاب " غياث الأمم في الإمامة " وكتاب " مغيث الخلق في اختيار الأحق " وكتاب " غنية المسترشدين " في الخلاف . [ ص: 476 ]
وكان إذا أخذ في علم الصوفية وشرح الأحوال أبكى الحاضرين وكان يذكر في اليوم دروسا ; الدرس في عدة أوراق ، لا يتلعثم في كلمة منها . وصفه بهذا وأضعافه عبد الغافر بن إسماعيل .
توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ودفن في داره ، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين ، فدفن بجنب والده ، وكسروا منبره ، وغلقت الأسواق ، ورثي بقصائد ، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ ، كسروا محابرهم وأقلامهم ، وأقاموا حولا ، ووضعت المناديل عن الرءوس عاما ، بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه ، وكانت الطلبة يطوفون في البلد نائحين عليه ، مبالغين في الصياح والجزع .
قلت : هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين .
وقال أبو الحسن الباخرزي في " الدمية " في حقه : الفقه فقه والأدب أدب الشافعي الأصمعي ، وفي الوعظ الحسن [ ص: 477 ] وكيف ما هو فهو إمام كل إمام ، والمستعلي بهمته على كل هام والفائز بالظفر على إرغام كل ضرغام ، إن تصدر للفقه ، الحسن البصري فالمزني من مزنته ، وإذا تكلم فالأشعري شعرة من وفرته .
أخبرنا يحيى بن أبي منصور الفقيه في كتابه ، عن عبد القادر الحافظ ، أخبرنا أبو العلاء الهمذاني ، أخبرني أبو جعفر الحافظ ، سمعت أبا المعالي وسئل عن قوله : الرحمن على العرش فقال : كان الله ولا عرش . وجعل يتخبط ، فقلت : هل عندك للضرورات من حيلة ؟ فقال : ما معنى هذه الإشارة ؟ قلت : ما قال عارف قط : يا رباه ! إلا قبل أن يتحرك لسانه ، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة - يقصد الفوق - فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فتنبئنا نتخلص من الفوق والتحت ؟ وبكيت وبكى الخلق ، فضرب بكمه على السرير ، وصاح بالحيرة ، ومزق ما كان عليه ، وصارت قيامة في المسجد ، ونزل يقول : يا حبيبي ! الحيرة الحيرة ، والدهشة الدهشة .