[ ص: 118 ] فصل في بحث أسمائه جل وعلا
اعلم أن المعتزلة ومن وافقهم واتبعهم يثبتون لله - تعالى - الأسماء دون ما تضمنته من الصفات ، فمنهم من جعل العليم والقدير ، والسميع والبصير ، كالأعلام المحضة المترادفة ، ومنهم من قال : عليم بلا علم ، قدير بلا قدرة ، سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر ، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات . قال شيخ الإسلام في رسالته ( التدمرية ) : والكلام على فساد مقالة هؤلاء ، وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول ، فإن هؤلاء يسفسطون في العقليات ، ويقرمطون في السمعيات ، وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه ، إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات ، كالحيوان والمعدن والنبات ، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع ، وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدث ، والممكن لا بد له من واجب ، كما قال - تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) ، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ، ولا هم الخالقون لأنفسهم ، تعين أن ( لهم ) خالقا خلقهم ، وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه ، وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم ، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ، ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا ، بل وجود هذا يخصه ، ووجود هذا يخصه ، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص ولا في غيره ، فلا يقول عاقل إذا قيل إن العرش شيء موجود ، وإن البعوض شيء موجود ، إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود ، بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق ، وإذا قيل : هذا موجود وهذا موجود ، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما ، ولهذا سمى الله - تعالى - نفسه بأسماء ، وسمى صفاته بأسماء ، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه ، لا يشركه فيها غيره ، لأنه - سبحانه - القديم ، وأسماؤه قديمة ، وصفاته قديمة ، فإذا كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول [ ص: 119 ] : الله حي عليم قدير ، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة ، قيل له : لا فرق بين إثبات الأسماء ، وبين إثبات الصفات ، فمن زعم أن إثبات الصفات يقتضي تشبيها أو تجسيما لما يرى في الشاهد ، قيل له : ولا يرى في الشاهد ما هو مسمى بحي وعليم وقدير إلا ما هو كذلك ، فكل ما احتج به من نفي الصفات يحتج عليه من الأسماء الحسنى ، فما كان جوابا له ، كان جوابا لمثبتي الصفات . ولما كانت أسماؤه - سبحانه - ثابتة باتفاق أهل السنة والمعتزلة ، قال مشيرا لذلك في النظام بقوله ( أسماؤه ) - سبحانه وتعالى - ( ثابتة ) بالنص والعقل ، ( عظيمة ) وصفها بذلك ; لأنها معظمة موصوفة بأنها حسنى ، وأنها قديمة عند أهل الحق ، كصفاته الذاتية وكذا الفعلية ، والمراد بأسمائه - تعالى - ما دل على مجرد ذاته كالله ، أو باعتبار الصفة كالعالم والقادر ، قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه ( بدائع الفوائد ) : أسماء الرب - تعالى - هي أسماء ونعوت ، فإنها دالة على صفات كماله ، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية ، فالرحمن اسمه - تعالى - ووصفه لا ينافي اسميته ، فمن حيث هو صفة ، جرى تابعا على اسم الله ، ومن حيث هو اسم ، ورد في القرآن غير تابع ، بل ورود الاسم العلم . وأما زعم المعتزلة أن الله كان أزليا بلا اسم ولا صفة ، فلما أوجد الخلق ، وضعوا له الأسماء والصفات ، كما نقله عنهم القرطبي والفاكهاني وغيرهما ، فهو خطأ فاحش ، قال السمين : هذا القول أشد خطأ من قولهم بخلق القرآن ; لإشعاره بالاحتياج للغير . وقال ابن حمدان في ( نهاية المبتدئين في أصول الدين ) : أسماء الله - تعالى - قديمة . انتهى .
وقد نص الإمام أن أسماء الله - تعالى - غير مخلوقة . وقال سيدنا الشافعي : من قال إن أسماء الله - تعالى - مخلوقة ، فقد كفر . قال الإمام أحمد ابن حمدان : ولا يقال أسماء الله هي المسمى ولا غيره ، إذ الغير ما فارق أو يفارق بزمان أو مكان أو الوجود والعدم ، بل يقال الاسم للمسمى به أو صفة للمسمى ، وعلم عليه أو دال على المسمى ، وقيل : أسماء الفعل غيره ، وأسماء الذات هي المسمى نفسه ، قال : وقد عظم على الكلام على الاسم والمسمى ، وأمسك عنه بعضهم ، وقال : لا نعلم ، وقال القاضي : الاسم والتسمية ، والوصف والصفة واحد ، فتسمية الخلق لله هو المسمى ، كما نقول في التلاوة هو المتلو ، وأما [ ص: 120 ] تسمية الله للخلق ، فهو غير الاسم ; لأنهم مخلوقون وكذلك أسماؤهم . وقال القاضي أيضا : الاسم غير المسمى . وقال أخيرا : الصحيح عندي أن الوصف ليس هو الصفة ; لأن الوصف حروف ، والصفة معنى يرجع إلى ذات الموصوف ، وهي هيئة فيه ليست حروفا . قال : وأما الاسم والتسمية فهما بمعنى واحد ، وإن التسمية هي الاسم ; لأن الجميع بحروف ، فهي كالتلاوة والمتلو ; لأن الجميع حروف ، والمسمى هو الذات . انتهى . الإمام أحمد
وقال : لا يقال في اسم الله أنه غيره ولا هو . انتهى كلام ابن بطة ابن حمدان . وقال الإمام المحقق ابن القيم في بدائع الفوائد : اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا له حقيقة متميزة متحصلة ، فاستحق أن يوضع له لفظ يدل عليه ; لأنه شيء موجود في اللسان ، مسموع بالآذان ، فاللفظ المؤلف من همزة الوصل والسين والميم عبارة عن اللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال مثلا ، واللفظ المؤلف من الزاي والياء والدال عبارة عن الشخص الموجود في الأعيان والأذهان ، وهو المسمى والمعنى ، واللفظ الدال عليه هو الاسم ، وهذا اللفظ أيضا قد صار مسمى من حيث كان لفظ الهمزة والسين والميم عبارة عنه ، فقد بان لك أن الاسم في أصل الوضع ليس هو المسمى ، ولهذا تقول : سميت هذا الشخص بهذا الاسم ، كما تقول حليته بهذه الحلية ، فالحلية غير المحلى ، فكذلك الاسم غير المسمى ، وقد صرح بذلك سيبويه ، وأخطأ من نسب إليه غير هذا ، وادعى أن مذهبه اتحادهما . قال في البدائع : وما قال نحوي قط ، ولا عربي أن الاسم هو المسمى ، ويقولون : أجل مسمى ، ولا يقولون : أجل اسم ، ويقولون : مسمى هذا الاسم كذا ، ولا يقول أحد : اسم هذا الاسم كذا ، ويقولون : بسم الله ، ولا يقولون : بمسمى الله ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " " ، ولا يصح أن يقال : تسعة وتسعون مسمى ، ونظائره كثيرة جدا . لله تسعة وتسعون اسما
قال ابن القيم في البدائع : وإذا ظهر الفرق بين الاسم والمسمى ، فبقي هنا التسمية ، وهي اغتر بها من قال باتحاد الاسم والمسمى ، والتسمية عبارة عن جعل المسمى ووضعه الاسم للمسمى ، كما أن التحلية عبارة عن فعل [ ص: 121 ] المحلى ، ووضعه الحلية على المحلى ، فهنا ثلاث حقائق : اسم ومسمى وتسمية ، كحلية ومحلى وتحلية ، وعلامة ومعلم وتعليم ، ولا سبيل إلى جعل لفظين منها مترادفين على معنى واحد لتباين حقائقها . فإذا جعل الاسم هو المسمى ، بطل واحد من هذه الحقائق الثلاثة ولا بد . فإن قيل : ما شبهة من قال باتحادهما ؟ فالجواب : شبهته أشياء ، منها أن الله - تعالى - هو وحده الخالق ، وما سواه مخلوق ، فلو كانت أسماؤه غيره ، لكانت مخلوقة ، ويلزم أن لا يكون له اسم في الأزل ولا صفة ; لأن أسماءه صفات ، وهذا أعظم ما قاد متكلمي الإثبات إلى القول باتحادهما ، والجواب عن كشف هذه الشبهة أن منشأ الغلط في هذا الباب من إطلاق ألفاظ مجملة محتملة لمعنيين حق وباطل ، فلا ينفصل النزاع إلا بتفصيل تلك المعاني وتنزيل ألفاظها عليها ، ولا ريب أن الله - تعالى - لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال المشتقة أسماؤه منها ، فلم يزل بصفاته وأسمائه ، وهو إله واحد له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وصفاته وأسماؤه داخلة في مسمى اسمه ، وإن كان لا يطلق على الصفة أنها إله يخلق ويرزق ، فليست صفاته وأسماؤه غيره ، وليست هي نفس الإله ، وبلاء القوم من لفظة الغير ، فإنها يراد بها معنيين : أحدهما المغاير لتلك الذات المسماة بالله ، وكل ما غاير الله مغايرة محضة بهذا الاعتبار ، فلا يكون إلا مخلوقا ، ويراد به مغايرة الصفة للذات إذا جردت عنها ، فإذا قيل : علم الله وكلام الله غيره ، بمعنى أنه غير الذات المجردة عن العلم والكلام ، كان المعنى صحيحا ، ولكن الإطلاق باطل ، فإذا أريد أن العلم والكلام مغاير لحقيقته المختصة التي امتاز بها عن غيره ، كان باطلا لفظا ومعنى . وبهذا أجاب أهل السنة المعتزلة القائلين بخلق القرآن ، وقالوا : كلامه - تعالى - داخل في مسمى اسمه ، فالله - تعالى - اسم للذات الموصوفة بصفات الكمال ، ومن تلك الصفات صفة الكلام ، كما أن علمه وقدرته وحياته ، وسمعه وبصره ، غير مخلوقة ، وإذا كان القرآن كلامه ، وهو صفة من صفاته ، فهو متضمن لأسمائه الحسنى ، فإذا كان القرآن غير مخلوق ، ولا يقال أنه غير الله ، فكيف يقال إن بعض ما تضمنه - وهو أسماؤه - مخلوقة وهي غيره ، فقد حصحص الحق بحمد الله ، [ ص: 122 ] وانحسم الإشكال ، وأن أسماءه الحسنى التي في القرآن من كلامه - وكلامه غير مخلوق - ولا يقال هو غيره ، ولا هو هو ، وهذا المذهب مخالف لمذهب المعتزلة الذين يقولون : أسماؤه غيره وهي مخلوقة ، ولمذهب من رد عليهم ممن يقول اسمه نفس ذاته لا غيره ، وبالتفصيل تزول الشبه ويتبين الصواب .
احتج من قال بأن الاسم عين الذات بقوله : " تبارك اسم ربك - واذكر اسم ربك - سبح اسم ربك " ، ونحو ذلك . والجواب : أنها حجة عليهم في الحقيقة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتثل هذا الأمر ، وقال : " " ، و " سبحان ربي الأعلى " ، ولو كان الأمر كما زعموا ، لقال : سبحان اسم ربي العظيم . ثم إن الأمة كلهم لا يجوز أحد منهم أن يقول : عبدت اسم ربي ، ولا سجدت لاسم ربي ، ولا ركعت لاسم ربي ، ولا يا اسم ربي ارحمني ، وهذا يدل أن هذه الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالاسم . وأما الجواب عن تعلق الذكر والتسبيح المأمور به بالاسم ، فقد قيل فيه : إن التعظيم والتنزيه إذا وجب للمعظم ، فقد يعظم ما هو من سببه ومتعلق به ، كما يقال : سلام على الحضرة العالية ، والباب السامي ، والمجلس الكريم ونحوه ، ولا يخفى أن هذا الجواب غير مرضي ; لأن الرسول إنما قال : " سبحان ربي العظيم " ، فلم يعرج على ما ذكرتموه ، ولأنه يلزم مما ذكرتم أن يطلق على الاسم التكبير والتحميد والتهليل ، وسائر ما يطلق على المسمى ، فيقال : الحمد لاسم الله ، ونحوه ، وهذا مما لم يقله أحد . والجواب الصحيح أن الذكر الحقيقي محله القلب ; لأنه ضد النسيان ، والتسبيح نوع من الذكر ، فلو أطلق الذكر والتسبيح ، لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان ، والله - تعالى - أراد من عباده الأمرين جميعا ، ولم يقبل الإيمان وعقد الإسلام إلا باقترانهما واجتماعهما ، فصار معنى الآيتين : سبح اسم ربك بقلبك ولسانك ، واذكر ربك بقلبك ولسانك ، فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان ; لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه ، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله ; لأن اللفظ لا يراد لنفسه ، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى . سبحان ربي
قال ابن القيم في البدائع : وعبر لي [ ص: 123 ] شيخنا أبو العباس ابن تيمية - قدس الله روحه - عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة ، فقال : المعنى سبح ناطقا باسم ربك متكلما به ، وكذا سبح اسم ربك ، المعنى سبح ربك ذاكرا اسمه . قال : وهذه الفائدة تساوي رحلة ، لكن لمن يعرف قدرها .
واحتجوا أيضا بقوله - تعالى : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء ) ، وإنما عبدوا مسمياتها . والجواب أنهم وإن كان عبدوا المسميات ، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة كاللات والعزى ، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة ، لا مسمى لها في الحقيقة ، فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها ، وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى ، فما عبدوا إلا أسماء لا حقائق لمسمياتها ، وهذا كمن سمى قشور البصل لحما وأكلها ، فيقال : ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه .