( ( وسمتها بالدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية ) ) ( ( على اعتقاد ذي السداد الحنبلي
إمام أهل الحق ذي القدر العلي ) ) ( ( حبر الملا فرد العلا الرباني
رب الحجى ماحي الدجى الشيباني ) )
( ( وسمتها ) ) من السمة وهي العلامة ، أي : سميتها يعني عقيدتي التي نظمتها في التوحيد ( بالدرة ) بضم الدال المهملة المشددة وفتح الراء المشددة أيضا اللؤلؤة العظيمة ، والجمع در ودرر ودرات ، ( المضية ) أي المنورة من الإضاءة ، يقال : ضاءت وأضاءت بمعنى يعني استنارت فصارت مضيئة ، ( في عقد ) أي اعتقاد ، ( أهل الفرقة ) أي الطائفة ، ( المرضية ) في اعتقادها المأثور عن منبع الهدى ، وينبوع النور ، ويأتي الكلام عليها قريبا ، ( على اعتقاد ) متعلق بنظمت ، والاعتقاد هو حكم الذهن الجازم ، فإن كان موافقا للواقع فهو صحيح ، وإلا فهو فاسد ، والحاصل أن كل معنى عبر عنه الإنسان بكلام خبري من إثبات أو نفي تخيله أو لفظ به إما أن يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه أو لا ، الثاني العلم ، والأول إما أن يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره أو لا ، الثاني الاعتقاد ، فإن طابق هذا الاعتقاد لما في نفس الأمر فهو اعتقاد صحيح ، وإن لم يطابق ما في نفس الأمر فهو اعتقاد فاسد ، والأول وهو الذي يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره الراجح منه ظن ، والمرجوح وهم ، والمساوي شك . وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله - تعالى - ( ذي ) أي صاحب ، ( السداد ) بفتح السين المهملة المشددة فدالين مهملتين بينهما ألف القصد في الدين [ ص: 61 ] والسبيل .
قال في القاموس : والسدد الاستقامة كالسداد - يعني بالفتح - وأما سداد القارورة والثغر فبالكسر فقط ، وسداد من عوز وعيش لما يسد به الخلة ، وقد يفتح أو لحن اهـ . وقد جزم وجمع بلحن من فتح سدادا في قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث النضر بن شميل ، وأمير المؤمنين ابن عباس علي - رضي الله عنهما : " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها ، كان فيه سداد من عوز " . وفيه حكاية مشهورة . والمراد بذي السداد هو الإمام الأمجد إمامنا بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان - بفتح المهملة وتشديد التحتية وبعد الألف نون - ابن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ( ذهل بن ) ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب - بكسر الهاء وإسكان النون وبعدها موحدة - بن أفصى - بالفاء والصاد المهملة - بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الإمام المروزي ثم البغدادي ، ( الحنبلي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ) نسبة إلى جده أبي أبيه حنبل ، ( إمام أهل الحق ) الذين هم الفرقة الناجية لاقتفائهم المأثور عن منبع الهدى ، ومعدن الخيرات ، وينبوع النور ، ( ذي ) صاحب ( القدر ) أي المقدار ( العلي ) أي المرتفع السامي لكثرة فضائله ، وتوفر محامده ومناقبه وآثاره في الإسلام المشهورة ، ومقامته في الدين المذكورة ، فقد انتشر ذكره في البلاد ، وعم نفعه العباد .
قال الإمام : الإمام إسحاق بن راهويه حجة بين الله - تبارك وتعالى - وبين عبيده في أرضه . وقال الإمام أحمد بن حنبل : خرجت من الشافعي بغداد ، وما خلفت فيها أحدا أتقى ولا أورع ولا أفقه ولا أعلم من . وقال أحمد بن حنبل : ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم بفقه معانيه من أحمد بن سعيد الدارمي . ومن ثم قلت ( حبر الملا ) بفتح الحاء المهملة وكسرها وسكون الموحدة [ ص: 62 ] العالم والصالح ، والملأ بفتح الميم واللام مهموز : أشراف الناس وجماعتهم وذوو الشارة منهم ( فرد ) أي واحد صاحب الخصال ( العلى ) أي المرتفعة السامية بأوصافها الجميلة ، ونعوتها الفضيلة ، ( الرباني ) أي العالم العامل ، المعلم للعلم غيره ، وهو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للدلالة على كمال الصفة ، وهو الشديد التمسك بدين الله - تعالى - وطاعته ، وعن المبرد أنه منسوب إلى ربان الذي يربي الناس بالتعليم . أبي عبد الله أحمد بن حنبل
وقال الصوفية : هو الكامل من كل الوجوه في جميع المعاني . وفي : الرباني الذي يربى بصغار العلم قبل كباره . وقال بعضهم : الرباني من أفيضت عليه المعارف الإلهية ، فعرف بها ربه ، وعرف الناس بعلمه ، ورأيتني كاتبا في كتابي " القول العلي في شرح حديث سيدنا أمير المؤمنين البخاري علي " عند قوله - رضي الله عنه : " الناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق " . ما لفظه : العالم الرباني وهو الذي لا زيادة على فضله لفاضل ، ولا منزلة فوق منزلته لكامل . قال - رضي الله عنهما : الرباني هو المعلم ، أخذه من التربية ، أي يربي الناس بالعلم كما يربي الطفل أبوه . وقال ابن عباس : هو الفقيه العليم الخبير . وقال سعيد بن جبير : زادوا ألفا ونونا في الرباني إذا أرادوا تخصيصا بعلم الرب ، كما قالوا : شعراني ولحياني لعظيم الشعر واللحية . وقال سيبويه أبو نعيم الزاهد : سألت ثعلبا عن هذا الحرف ، وهو الرباني ، فقال : سألت ، فقال : إذا كان الرجل عالما عاملا معلما ، قيل له : هذا رباني ، فإن حرم خصلة منها لم يقل له رباني . وفي " مفتاح دار السعادة " للإمام المحقق ابن الأعرابي ابن القيم : معنى الرباني الرفيع الدرجة في العلم العالي المنزلة فيه ، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار ) انتهي . والله أعلم .
( رب ) أي صاحب ، ( الحجا ) كالي العقل والفطنة والمقدار العالي . كان سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - ربعة من الرجال ، حسن الوجه ، حسن الهيئة ، لا يخوض في شيء من أمور الناس ، ذا وقار وسكينة ، من أحيا الناس وأكرمهم نفسا ، وأحسنهم عشرة وأدبا ، كثير الإطراق وغض البصر ، معرضا عن اللغو ، لا يسمع منه إلا المذاكرة [ ص: 63 ] بالحديث وذكر الصالحين . قال الإمام الحافظ أبو داود : كانت مجالس الإمام أحمد مجالس آخرة ، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا . قال : وما سمعته ذكر الدنيا قط . وقال ثعلب في صفته : رأيت رجلا كأن النار توقد بين عينيه . وقال : ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف ثوبا ، ولا أشد تعاهدا لنفسه في ثيابه وشعر رأسه وبدنه من الإمام عبد الملك الميموني . وكان يحب الفقراء ، ويعرض عن أهل الدنيا ، وكان حسن الخلق ، دائم البشر ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، يحب في الله ، ويبغض في الله ، ويحب لمن أحبه ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لها ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، حسن الجوار ، يؤذى فيتحمل . وكان أصبر الناس على الوحدة ، فكان لا يرى إلا في مسجد أو جنازة أو عيادة مريض ، ويكره المشي في الأسواق . وكان يقول : الخلوة أروح لقلبي . وكان يقال : كان أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - أشبه الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديا وسمتا ، وكان أشبه الناس بهدي ابن مسعود عبد الله وسمته ، وكان أشبه الناس علقمة بن قيس بعلقمة ، وكان أشبه الناس إبراهيم النخعي بإبراهيم ، وكان أشبه الناس منصور بن المعتمر بمنصور ، وكان أشبه الناس سفيان الثوري بسفيان . وكيع بن الجراح
قال محمد بن يونس : وكان أشبه الناس بوكيع الإمام - رضوان الله عليهم أجمعين . وكان الإمام أحمد بن حنبل أحمد - رضي الله عنه - يخضب بالحناء خضبا ليس بالقاني . واعلم أنه لا شبهة عند أئمة الدين بأن سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - إمام السنة ، والصابر في المحنة ، ( ماحي ) بنور السنة وإضاءة المتابعة وسنا الوراثة المحمدية أي مذهب أثر ( الدجى ) ، أي ظلمة البدعة ، يقال : دجا الليل دجوا ودجوا ، أظلم كأدجى وتدجى ، وليلة داجية أي مظلمة ، ودياجي الليل حنادسه ، فإن إمامنا وسيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - كسر سورة أهل البدع ، وشل جموعهم ، ورد كيدهم في صدورهم ، وأبقى شجاهم في نحورهم ، ( الشيباني ) نسبة إلى أحد أجداده شيبان المذكور في نسبه ، فالإمام أحمد - رضي الله عنه - من صريح ولد إسماعيل ، ومن صميم العرب ، وكان أبو الإمام أحمد والي سرخس من أبناء الدعوة العباسية ، وتوفي وله ثلاثون سنة سنة تسع وسبعين ومائة ، وللإمام [ ص: 64 ] أحمد نحو خمس عشرة سنة ، فإن أمه حملت به بمرو ، وقدمت بغداد وهي حامل به ، فوضعته بها ، ووليته أمه واسمها صفية ، وهي شيبانية أيضا ، فإنها صفية بنت ميمون بن عبد الله الشيباني ( من بني عامر ) ، نزل أبوه بهم فتزوجها ، وجدها عبد الملك بن سوادة بن هند الشيباني من وجوه بني شيبان ، تنزل به قبائل العرب للضيافة ، فحاز إمامنا - رضي الله عنه - شرف النسبين ، وكمل له بأصليه تمام الشرفين .