( ( فلا يحيط علمنا بذاته كذاك لا ينفك عن صفاته ) ) ( ( فكل ما قد جاء في الدليل
فثابت من غير تمثيل ) )
قال شيخ الإسلام في التدمرية : ومثل هذا - يعني عدم العلم بحقائق الصفات والذات - يوجد كثيرا في كلام السلف ، وأنه والأئمة ينفون علم العباد بكيفية صفات الله تعالى ، [ ص: 214 ] قال : فلا يعلم ما هو إلا هو ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يعلم كيف الله إلا الله " وهذا في صحيح لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك مسلم وغيره .
وقال في الحديث الآخر " " والحديث في المسند ، وصحيح اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أبي حاتم ، وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده ، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره ، ونحن نعلم أن أسماء الله تعالى كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله مع تنوع معانيها ، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات ، متباينة من جهة الصفات ، فهي مترادفة بحسب الذات متباينة بحسب الصفات
قال شيخ الإسلام : ، وفي الغائب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار ، علمنا معنى ذلك ، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب وفسرنا ذلك ، وأما نفس الحقيقة المخبر عنها مثل التي لم تكن بعد وإنما تكون يوم القيامة فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ، انتهى . ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد
ولهذا قال بعض الناس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الاسم ، كما قاله - رضي الله عنهما - ، قال ابن عباس ابن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا بالتفاح والرمان ، وليس هو مثله في الطعم . وقد أخرج - رحمهما الله تعالى - من حديث عبد الله بن الإمام أحمد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أبي موسى الأشعري أهبط الله آدم من الجنة ، وعلمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة ، فثماركم هذه من ثمار الجنة ، غير أنها تغير وتلك لا تتغير " .
فالله جل شأنه لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته ، وصفات اليوم الآخر ، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة ، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة ، فحقيقة ما دل عليه سبحانه وتعالى من حقائق الأسماء والصفات وماله من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله فلا يعلمه إلا هو ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله .
[ ص: 215 ] وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة ، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد المعنيين من إضافة أو تعريف ، كما إذا قيل فيها أنهار من ماء ، فهنا قد خص هذا الماء بالجنة ، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا ، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلومة لنا ، وهو مع ما أعده الله تعالى لعباده الصالحين مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ، وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها التي هي حقيقته لا يعلمها إلا هو ، ولهذا كان الأئمة الكبار كالإمام أحمد وغيره ، ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه .
فالحقيقة التي استأثر الله بعلمها لا يعلمها إلا هو ، كما بسط عليه الكلام شيخ الإسلام في التدمرية وغيرها ، ثم قال : وقد افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق ، فالسلف والأئمة وأتباعهم آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه ، وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا ، وبين ما في الآخرة ، وأن مباينة الله تعالى لخلقه أعظم .
( والفريق الثاني ) الذين أثبتوا ما أخبر به في الآخرة من الثواب والعقاب ونفوا كثيرا مما أخبر به من الصفات مثل طوائف من أهل الكلام .
( والفريق الثالث ) نفوا هذا وهذا كالقرامطة الباطنية والفلاسفة اتباع المشائين ونحوهم من الملاحدة ، الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه ، وعن اليوم الآخر ، وهؤلاء الباطنية هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى ، والله أعلم .