( الثالث ) ذكر الإمام
أبو العباس عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي الصوفي المحقق العارف ، تلميذ
شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله سرهما ، الذي قال فيه شيخ الإسلام : إنه جنيد زمانه - في رسالته نصيحة الإخوان ما حاصله في
nindex.php?page=treesubj&link=28727مسألة العلو والفوقية والاستواء ، هو أن الله عز وجل كان ولا مكان ، ولا عرش ، ولا ماء ، ولا فضاء ، ولا هواء ، ولا خلاء ، ولا ملأ ، وإنه كان منفردا في قدمه وأزليته ، متوحدا في فردانيته ، لا يوصف بأنه فوق كذا إذا لا شيء غيره ، هو تعالى سبق التحت والفوق اللذين هما جهتا العالم ، وهو لا زمان له تعالى ، هو تعالى في تلك الفردانية منزه عن لوازم الحدث وصفاته ، فلما اقتضت الإرادة المقدسة خلق الأكوان وجعل جهتي العلو والسفل ، واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الكون في جهة التحت لكونه مربوبا مخلوقا ، واقتضت العظمة الربانية أن يكون هو تعالى فوق الكون باعتبار الكون لا باعتبار فردانيته ، إذا لا فوق فيها ولا تحت ، والرب سبحانه وتعالى كما كان في قدمه وأزليته وفردانيته لم يحدث له في ذاته ، ولا في صفاته ما لم يكن له في قدمه وأزليته فهو الآن كما كان ، لما أحدث المربوب المخلوق ذا الجهات والحدود ، والخلا والملا ، ذا الفوقية والتحتية ، كان مقتضى حكم العظمة الربوية أن يكون فوق ملكه ، وأن تكون المملكة تحته باعتبار الحدوث من الكون لا باعتبار القدم من المكون ، فإذا أشير إليه بشيء يستحيل أن يشار من جهة التحتية أو من جهة اليمنة أو من جهة اليسرة بل لا يليق أن يشار إليه إلا من جهة العلو والفوقية ، ثم الإشارة هي بحسب الكون وحدوثه وأسفله فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة ، وتقع على عظمة الله تعالى كما يليق به لا كما يقع على الحقيقة المحسوسة عندنا في أعلى جزء من الكون فإنها إشارة إلى جسم وتلك
[ ص: 211 ] إشارة إلى إثبات .
إذا علم ذلك فالاستواء صفة كانت له سبحانه وتعالى في قدمه لكن لم يظهر حكمها إلا بعد خلق العرش ، كما أن الحساب صفة قديمة لا يظهر حكمها إلا في الآخرة . وكذلك التجلي في الآخرة لا يظهر حكمه إلا في محله ، قال : فإذا علم ذلك فالأمر الذي تهرب المتأولة منه حيث أولوا الفوقية بفوقية المرتبة ، والاستواء بالاستيلاء فنحن أشد الناس هربا من ذلك ، وتنزيها للباري تعالى عن الحد الذي يحصره فلا يحد بحد يحصره بل بحد تتميز به عظمة ذاته عن مخلوقاته ، والإشارة إلى الجهة إنما هو بحسب الكون وأسفله إذ لا يمكن الإشارة إليه إلا هكذا ، وهو في قدسه سبحانه منزه عن صفاته لا يمكنه معرفة بارئه إلا من فوقه ، فتقع الإشارة إلى العرش حقيقة إشارة معقولة ، وتنتهي الجهات عند العرش ، ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ، ولا يكيفه الوهم ، فتقع الإشارة عليه كما يليق به مجملا مثبتا لا مكيفا ممثلا .
( قال ) فإذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصنا من شبهة التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل ، وأثبتنا
nindex.php?page=treesubj&link=28728علو ربنا ، وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته ، والحق واضح في ذلك ، والصدر ينشرح له فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة ، مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره ، والوقوف في ذلك جهل وغي مع كون الرب وصف نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها ، فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا ، ولا نقف في ذلك .
قال : وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة فمن وفقه الله للإثبات بلا تحريف ، ولا تكييف ، ولا وقوف فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
وذكر شيخ الإسلام في كتابه في العرش ما حاصله : اختلف في
nindex.php?page=treesubj&link=28726العرش ، هل هو كري كالأفلاك محيطا به ، وإما أن يكون فوقها وليس هو كريا ، فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل أن الجهة العليا هي جهة المحيط ، هو المحدد ، وأن الجهة السفلى هي المركز وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط . وأما الجهات الست
[ ص: 212 ] فهي للحيوان ، وليس لها في نفسها صفة لازمة ، بل هي بحسب الإضافة فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا ، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا ، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا .
لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال ، هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر ، والنبات والجبال ، والأنهار الجارية ، فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها ، وليس هناك شيء من الآدميين ، وما يتبعهم ، ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض ، ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه ، ولا من في هذه تحت من في هذه ،
كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر ، ولا
القطب الجنوبي ولا بالعكس ، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء ، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثون درجة ، وهو الذي يسمى عرض البلد ، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها ، وهو فوقها مطلقا فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهاته الباقية أصلا ، ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من غير جهة العلو كان جاهلا باتفاق العقلاء ، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه ؟ وغاية ما يقدر أن يكون كري الشكل ، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله ، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم . وهذا الأثر وأمثاله معروفة في كتب الحديث .
قال شيخ الإسلام : ومن المعلوم أن الواحد منا ، ولله المثل الأعلى ، إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته ، وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته فهو في الحالين مباين لها ، والعرش سواء كان هذا الفلك التاسع الذي هو الفلك الأطلس عند الفلاسفة ، ويسمونه الفلك الأعظم ، وفلك الأفلاك ، أو كان جسما محيطا بالفلك التاسع أو كان فوقه من جهة وجه الأرض غير محيط به ، فيجب
[ ص: 213 ] على كل حال أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخلق في غاية الصغر ، كما قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=67وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، وفي ذلك من الأحاديث ما سيأتي ذكر بعضها عند ذكر يديه تعالى .
وسواء قدر أن
nindex.php?page=treesubj&link=31748_28726العرش محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها ، أو قيل إنه فوقها وليس محيطا بها كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك ، فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات ، والخالق سبحانه وتعالى فوقه ، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت . ثم قال شيخ الإسلام في آخر كتاب العرش : قد تبين أنه سبحانه وتعالى أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك ، وأنها أصغر عنده من الحمصة أو الفلفلة ، ونحو ذلك في يد أحدنا ، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة بل الدرهم ، والدينار أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك ، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك فالله تعالى وله المثل الأعلى أعظم من أن يظن ذلك به ، وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون وبالله التوفيق .
( الثَّالِثُ ) ذَكَرَ الْإِمَامُ
أَبُو الْعَبَّاسِ عِمَادُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاسِطِيُّ الصُّوفِيُّ الْمُحَقِّقُ الْعَارِفُ ، تِلْمِيذُ
شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُمَا ، الَّذِي قَالَ فِيهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : إِنَّهُ جُنَيْدُ زَمَانِهِ - فِي رِسَالَتِهِ نَصِيحَةِ الْإِخْوَانِ مَا حَاصِلُهُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28727مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالِاسْتِوَاءِ ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ وَلَا مَكَانَ ، وَلَا عَرْشَ ، وَلَا مَاءَ ، وَلَا فَضَاءَ ، وَلَا هَوَاءَ ، وَلَا خَلَاءَ ، وَلَا مَلَأَ ، وَإِنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا فِي قِدَمِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ ، مُتَوَحِّدًا فِي فَرْدَانِيَّتِهِ ، لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ فَوْقَ كَذَا إِذَا لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ، هُوَ تَعَالَى سَبَقَ التَّحْتَ وَالْفَوْقَ اللَّذَيْنِ هُمَا جِهَتَا الْعَالَمِ ، وَهُوَ لَا زَمَانَ لَهُ تَعَالَى ، هُوَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْفَرْدَانِيَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ لَوَازِمِ الْحَدَثِ وَصِفَاتِهِ ، فَلَمَّا اقْتَضَتِ الْإِرَادَةُ الْمُقَدَّسَةُ خَلْقَ الْأَكْوَانِ وَجَعْلَ جِهَتِي الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ ، وَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْكَوْنُ فِي جِهَةِ التَّحْتِ لِكَوْنِهِ مَرْبُوبًا مَخْلُوقًا ، وَاقْتَضَتِ الْعَظَمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَنْ يَكُونَ هُوَ تَعَالَى فَوْقَ الْكَوْنِ بِاعْتِبَارِ الْكَوْنِ لَا بِاعْتِبَارِ فَرْدَانِيَّتِهِ ، إِذَا لَا فَوْقَ فِيهَا وَلَا تَحْتَ ، وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا كَانَ فِي قِدَمِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ وَفَرْدَانِيَّتِهِ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ فِي ذَاتِهِ ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي قِدَمِهِ وَأَزَلِيَّتِهِ فَهُوَ الْآنَ كَمَا كَانَ ، لَمَّا أَحْدَثَ الْمَرْبُوبَ الْمَخْلُوقَ ذَا الْجِهَاتِ وَالْحُدُودِ ، وَالْخَلَا وَالْمَلَا ، ذَا الْفَوْقِيَّةِ وَالتَّحْتِيَّةِ ، كَانَ مُقْتَضَى حُكْمِ الْعَظَمَةِ الرَّبَوِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ مُلْكِهِ ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَمْلَكَةُ تَحْتَهُ بِاعْتِبَارِ الْحُدُوثِ مِنَ الْكَوْنِ لَا بِاعْتِبَارِ الْقِدَمِ مِنَ الْمُكَوِّنِ ، فَإِذَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُشَارَ مِنْ جِهَةِ التَّحْتِيَّةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْيَمْنَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْيَسْرَةِ بَلْ لَا يَلِيقُ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ ، ثُمَّ الْإِشَارَةُ هِيَ بِحَسَبِ الْكَوْنِ وَحُدُوثِهِ وَأَسْفَلِهِ فَالْإِشَارَةُ تَقَعُ عَلَى أَعْلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَوْنِ حَقِيقَةً ، وَتَقَعُ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَلِيقُ بِهِ لَا كَمَا يَقَعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَحْسُوسَةِ عِنْدَنَا فِي أَعْلَى جُزْءٍ مِنَ الْكَوْنِ فَإِنَّهَا إِشَارَةٌ إِلَى جِسْمٍ وَتِلْكَ
[ ص: 211 ] إِشَارَةٌ إِلَى إِثْبَاتٍ .
إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالِاسْتِوَاءُ صِفَةٌ كَانَتْ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قِدَمِهِ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهَا إِلَّا بَعْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ ، كَمَا أَنَّ الْحِسَابَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهَا إِلَّا فِي الْآخِرَةِ . وَكَذَلِكَ التَّجَلِّي فِي الْآخِرَةِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ إِلَّا فِي مَحَلِّهِ ، قَالَ : فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ الَّذِي تَهْرَبُ الْمُتَأَوِّلَةُ مِنْهُ حَيْثُ أَوَّلُوا الْفَوْقِيَّةَ بِفَوْقِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ ، وَالِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ فَنَحْنُ أَشَدُّ النَّاسِ هَرَبًا مِنْ ذَلِكَ ، وَتَنْزِيهًا لِلْبَارِي تَعَالَى عَنِ الْحَدِّ الَّذِي يَحْصُرُهُ فَلَا يُحَدُّ بِحَدٍّ يَحْصُرُهُ بَلْ بِحَدٍّ تَتَمَيَّزُ بِهِ عَظَمَةُ ذَاتِهِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجِهَةِ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْكَوْنِ وَأَسْفَلِهِ إِذْ لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ إِلَّا هَكَذَا ، وَهُوَ فِي قُدْسِهِ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِهِ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ بَارِئِهِ إِلَّا مِنْ فَوْقِهِ ، فَتَقَعُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً إِشَارَةً مَعْقُولَةً ، وَتَنْتَهِي الْجِهَاتُ عِنْدَ الْعَرْشِ ، وَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ ، وَلَا يُكَيِّفُهُ الْوَهْمُ ، فَتَقَعُ الْإِشَارَةُ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِهِ مُجْمَلًا مُثْبَتًا لَا مُكَيَّفًا مُمَثَّلًا .
( قَالَ ) فَإِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَاعْتَقَدْنَاهُ تَخَلَّصْنَا مِنْ شُبْهَةِ التَّأْوِيلِ وَعَمَاوَةِ التَّعْطِيلِ وَحَمَاقَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ ، وَأَثْبَتْنَا
nindex.php?page=treesubj&link=28728عُلُوَّ رَبِّنَا ، وَفَوْقِيَّتَهُ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَالْحَقُّ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ ، وَالصَّدْرُ يَنْشَرِحُ لَهُ فَإِنَّ التَّحْرِيفَ تَأْبَاهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ ، مِثْلُ تَحْرِيفِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَالْوُقُوفُ فِي ذَلِكَ جَهْلٌ وَغَيٌّ مَعَ كَوْنِ الرَّبِّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لِنَعْرِفَهُ بِهَا فَوُقُوفُنَا عَنْ إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا عُدُولٌ عَنِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِنَا إِيَّاهَا ، فَمَا وَصَفَ لَنَا نَفْسَهُ بِهَا إِلَّا لِنُثْبِتَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَنَا ، وَلَا نَقِفُ فِي ذَلِكَ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْإِثْبَاتِ بِلَا تَحْرِيفٍ ، وَلَا تَكْيِيفٍ ، وَلَا وُقُوفٍ فَقَدْ وَقَعَ عَلَى الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِهِ فِي الْعَرْشِ مَا حَاصِلُهُ : اخْتُلِفَ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28726الْعَرْشِ ، هَلْ هُوَ كُرِّيٌّ كَالْأَفْلَاكِ مُحِيطًا بِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهَا وَلَيْسَ هُوَ كُرِّيًّا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُسْتَدِيرَةٌ كُرَيَّةُ الشَّكْلِ أَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا هِيَ جِهَةُ الْمُحِيطِ ، هُوَ الْمُحَدَّدُ ، وَأَنَّ الْجِهَةَ السُّفْلَى هِيَ الْمَرْكَزُ وَلَيْسَ لِلْأَفْلَاكِ إِلَّا جِهَتَانِ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَقَطْ . وَأَمَّا الْجِهَاتُ السِّتُّ
[ ص: 212 ] فَهِيَ لِلْحَيَوَانِ ، وَلَيْسَ لَهَا فِي نَفْسِهَا صِفَةٌ لَازِمَةٌ ، بَلْ هِيَ بِحَسَبِ الْإِضَافَةِ فَيَكُونُ يَمِينُ هَذَا مَا يَكُونُ يَسَارَ هَذَا ، وَيَكُونُ أَمَامَ هَذَا مَا يَكُونُ خَلْفَ هَذَا ، وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا مَا يَكُونُ تَحْتَ هَذَا .
لَكِنَّ جِهَةَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لِلْأَفْلَاكِ لَا تَتَغَيَّرُ فَالْمُحِيطُ هُوَ الْعُلُوُّ وَالْمَرْكَزُ هُوَ السُّفْلُ مَعَ أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ لِلْأَنَامِ وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ ، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ وَالشَّجَرُ ، وَالنَّبَاتُ وَالْجِبَالُ ، وَالْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ ، فَأَمَّا النَّاحِيَةُ الْأُخْرَى مِنَ الْأَرْضِ فَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهَا ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنَ الْآدَمِيِّينَ ، وَمَا يَتْبَعُهُمْ ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هُنَاكَ أَحَدٌ لَكَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ ، وَلَا مَنْ فِي هَذِهِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ ،
كَمَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحِيطَةٌ بِالْمَرْكَزِ وَلَيْسَ أَحَدُ جَانِبَيِ الْفَلَكِ تَحْتَ الْآخَرِ ، وَلَا
الْقُطْبُ الْجَنُوبِيُّ وَلَا بِالْعَكْسِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّمَالِيُّ هُوَ الظَّاهِرَ لَنَا فَوْقَ الْأَرْضِ وَارْتِفَاعُهُ بِحَسَبِ بُعْدِ النَّاسِ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ، فَمَا كَانَ بُعْدُهُ عَنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ ثَلَاثِينَ دَرَجَةً مَثَلًا كَانَ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ دَرَجَةً ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عَرْضُ الْبَلَدِ ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْعَرْشَ مُسْتَدِيرٌ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَانَ هُوَ أَعْلَاهَا وَسَقْفَهَا ، وَهُوَ فَوْقَهَا مُطْلَقًا فَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَا فَوْقَهُ الْإِنْسَانُ إِلَّا مِنَ الْعُلُوِّ لَا مِنْ جِهَاتِهِ الْبَاقِيَةِ أَصْلًا ، وَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْفَلَكِ التَّاسِعِ أَوِ الثَّامِنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْعُلُوِّ كَانَ جَاهِلًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ، فَكَيْفَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْعَرْشِ أَوْ إِلَى مَا فَوْقَهُ ؟ وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنْ يَكُونَ كُرِّيَّ الشَّكْلِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا إِحَاطَةً تَلِيقُ بِجَلَالِهِ ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ فِي يَدِهِ أَصْغَرُ مِنِ الْحُمُّصَةِ فِي يَدِ أَحَدِنَا ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ . وَهَذَا الْأَثَرُ وَأَمْثَالُهُ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ، إِذَا كَانَ عِنْدَهُ خَرْدَلَةٌ إِنْ شَاءَ قَبَضَهَا فَأَحَاطَتْ بِهَا قَبْضَتُهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْهَا بَلْ جَعَلَهَا تَحْتَهُ فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ مُبَايِنٌ لَهَا ، وَالْعَرْشُ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْفَلَكُ التَّاسِعُ الَّذِي هُوَ الْفَلَكُ الْأَطْلَسُ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ ، وَيُسَمُّونَهُ الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ ، وَفَلَكَ الْأَفْلَاكِ ، أَوْ كَانَ جِسْمًا مُحِيطًا بِالْفَلَكِ التَّاسِعِ أَوْ كَانَ فَوْقَهُ مِنْ جِهَةِ وَجْهِ الْأَرْضِ غَيْرَ مُحِيطٍ بِهِ ، فَيَجِبُ
[ ص: 213 ] عَلَى كُلِّ حَالٍّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَالسُّفْلِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=67وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِهَا عِنْدَ ذِكْرِ يَدَيْهِ تَعَالَى .
وَسَوَاءٌ قُدِّرَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31748_28726الْعَرْشَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَإِحَاطَةِ الْكُرَةِ بِمَا فِيهَا ، أَوْ قِيلَ إِنَّهُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحِيطًا بِهَا كَوَجْهِ الْأَرْضِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَوْفِهَا وَكَالْقُبَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَعَلَى التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْعَرْشُ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَهُ ، وَالْعَبْدُ فِي تَوَجُّهِهِ إِلَى اللَّهِ يَقْصِدُ الْعُلُوَّ دُونَ التَّحْتِ . ثُمَّ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْعَرْشِ : قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ دَاخِلِ الْفَلَكِ ، وَأَنَّهَا أَصْغَرُ عِنْدَهُ مِنِ الْحِمَّصَةِ أَوِ الْفُلْفُلَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي يَدِ أَحَدِنَا ، فَإِذَا كَانَتِ الْحِمَّصَةُ أَوِ الْفُلْفُلَةُ بَلِ الدِّرْهَمُ ، وَالدِّينَارُ أَوِ الْكُرَةُ الَّتِي يَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، هَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ إِذَا اسْتَشْعَرَ عُلُوَّ الْإِنْسَانِ عَلَى ذَلِكَ وَإِحَاطَتِهِ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ كَالْفَلَكِ فَاللَّهُ تَعَالَى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُظَنَّ ذَلِكَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَظُنُّهُ الَّذِينَ لَمْ يَقْدِرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .