اعلم أن الله - تعالى - خلق الخلق وأحوج بعضهم إلى بعض لتقوم كل طائفة بمصالح غيرها ، فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر ، والأصاغر بمصالح الأكابر ، والأغنياء بمصالح الفقراء ، والفقراء بمصالح الأغنياء ، والنظراء بمصالح النظراء ، والنساء بمصالح الرجال ، والرجال بمصالح النساء ، والرقيق بمصالح السادات ، والسادات بمصالح الأرقاء ، وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين أو أحدهما أو إلى دفع مفاسدهما أو أحدهما .
أما فهو أنواع : أحدها : الاحتياج إلى الإمام الأعظم ثم إلى الولاة القائمين بمصالح المسلمين ، ثم إلى القضاة القائمين بإنصاف المظلومين من الظالمين وحفظ الحقوق على الغائبين ، وعلى الأطفال والمجانين ، ثم إلى الآباء والأمهات القائمين بمصالح البنين والبنات ، ثم بأولياء النكاح ، ثم بالأمانات الشرعية ، ولولا نصب الإمام الأعظم لفاتت المصالح الشاملة ، وتحققت المفاسد العامة [ ص: 69 ] ولاستولى القوي على الضعيف ، والدنيء على الشريف ، وكذلك ولاة الإمام فإنه لا يتم إلا بالاستعانة بهم للقيام بمصالح المسلمين ، وكذلك الحكام لو لم ينصبوا لفاتت حقوق المسلمين ولضاعت أموال الغيب والصبيان والمجانين ، وكذلك لو لم تفوض التربية إلى الآباء والأمهات لضاع البنون والبنات . احتياج الأصاغر إلى الأكابر
وكذلك لو لم يفوض الإنكاح إلى الرجال لاستحيا معظم النساء من مباشرة العقد ، ولتضررن بالخجل والاستحياء ، ولا سيما المستحسنات الخفرات ، وكذلك الأمانات الشرعية لو لم تشرع لضاعت الأموال التي استأمنهم الشرع عليها ولتضرر مالكوها ، وكذلك اللقطاء لو لم يشرع التقاطهم لفاتت على أربابها وسنذكر إن شاء الله فوائد كل ولاية ولاية .
وأما احتياج الأكابر إلى الأصاغر فنوعان . أحدهما : الاحتياج إلى المعاونة والمساعدة على القيام بمصالح الأجسام الخاصة بهم وذلك بالمنافع كالاستيداع والخياطة والكتابة والحراثة والنساجة والنجارة والتجارة والبناء والطب والمساحة والقسمة ، وغير ذلك من أنواع ما يحتاج العباد إليه من المنافع ، كالوكالة والإعارة والجعالة والسفادة والحلب وكراء الجمال والخيل والبغال والحمير والأنعام ، وغير ذلك مما تمس الحاجة إليه أو تدعو إليه الضرورات لو لم يأذن الشرع في هذا بعوض أو بغير عوض ، لأدى إلى هلاك العالم ، إذ لا يتم نظامه إلا بما ذكرته ، ولذلك قال - سبحانه وتعالى - : { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } ، أي لتسخر الأغنياء الفقراء فيما يحتاجون إليه من المنافع المذكورة وغيرها ، فإنه لو لم يبح ذلك لاحتاج كل واحد أن يكون حراثا زراعا ساقيا باذرا حاصدا دائسا منقيا طحانا عجانا خبازا طباخا ، ولاحتاج في آلات ذلك إلى أن يكون حدادا لآلاته نجارا لها ، وكذلك كل ما يتوقف عليه من جلب الحديد والأخشاب واستصناعها ، وكذلك اللباس يفتقر قطنه وكتانه إلى ما يفتقر إليه الزرع [ ص: 70 ] ثم إلى غزله ونسجه أو جزه إن كان من الأصواف والأوبار والأشعار ، ثم إلى غزله ونسجه .
وكذلك المساكن لو لم تجز إجارتها لكان أكثر الناس مطروحين على الطرقات متعرضين للآفات وظهور العورات ، ولانكشاف أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم وأخواتهم ، وكذلك كل حرفة من الحرف وصنعة من الصنائع لو لم تجز الإجارة فيها لتعطلت جميع مصالحها المبنية عليها لندرة التبرع بها ، ولا سيما الدلاك والحلاق والحشاش والقمام لولا اضطرار الفقر إليه لما باشروه ولا أكبوا عليه ، ولكن الله أحوجهم إلى ذلك فلا مسوءة لاضطرارهم إليه .
ومن حكمته - سبحانه وتعالى - أن وفر دواعي كل قوم على القيام بنوع من المصالح فزين لكل أمة عملهم وحببه إليهم ليصيروا بذلك إلى ما قضى لهم وعليهم .
ولو نظر الناظرون في جل هذه المصالح ودقها ، لعجزوا عن شكرها ، بل لو عدوها لما أحصوا عدها ، ولا قدر شيء منها إلا عند فقده وعدمه ، فنسأل الله ألا يخلينا من فضله وكرمه ، فلو فقد أحدنا بيتا يأويه ، أو ثوبا يواريه أو مدفئا يدفئه ، لما أطاق الصبر عليه ، ولكننا لما غمرتنا النعم نسيناها .
وكذلك احتاج النظراء إلى النظراء في المعاملات على المنافع والأعيان ، وإباحتهما بالمعاوضات ، والعواري والإباحات كالمآكل والمشارب والملابس والمراكب والأدوية وغير ذلك لو لم يبح الشرع فيه التمليك بالبيع وغيره لهلك العالم ; لأن التبرع به نادر .
ومن هذه المعاملات : ما أجمع المسلمون على أنه فرض كفاية ، ومنها ما أجمعوا على أنه ندب ، ومنها ما أجمعوا على إباحته كالتتمات والتكملات من لبس الناعمات ، وأكل الطيبات ، وشرب اللذيذات ، وسكنى القصور العاليات ، والغرف المرتفعات .
[ ص: 71 ] وعلى الجملة فمصالح الدنيا والآخرة ثلاثة أقسام كل قسم منها في منازل متفاوتات . فأما . فالضرورات : كالمآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والمراكب الجوالب للأقوات وغيرها مما تمس إليه الضرورات ، وأقل المجزئ من ذلك ضروري ، وما كان في ذلك في أعلا المراتب كالمآكل الطيبات والملابس الناعمات ، والغرف العاليات ، والقصور الواسعات ، والمراكب النفيسات ونكاح الحسناوات ، والسراري الفائقات ، فهو من التتمات والتكملات ، وما توسط بينهما فهو من الحاجات . مصالح الدنيا فتنقسم إلى الضرورات والحاجات والتتمات والتكملات
وأما مصالح الآخرة ففعل الواجبات واجتناب المحرمات من الضروريات وفعل السنن المؤكدات الفاضلات من الحاجات ، وما عدا ذلك من المندوبات التابعة للفرائض والمستقلات فهي من التتمات والتكملات .
وفاضل كل قسم من الأقسام الثلاثة مقدم على مفضوله ، فيقدم ما اشتدت الضرورة إليه على ما مست الحاجة إليه .
فإن قيل : قد ساوى الشرع في القسمة العامة على تفاوت الحاجات دون الفضائل والمناقب فهلا كانت قسمة القضاء والقدر كذلك ؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أن قسمة القدر لو كانت كقسمة الشرع لأدى إلى أن يعجز الناس عن قيام كل واحد منهم بما ذكرناه من المصالح المذكورة ، وأدى ذلك إلى هلاك العالم وتعطيل مصالح الدنيا والآخرة .
الوجه الثاني : أن الغرض بقسمة القدر أن ينظر الغني إلى من دونه امتحانا لشكره ، وينظر الفقير إلى الغني اختبارا لصبره ، وقد نص القرآن على هذا [ ص: 72 ] بقوله : { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون } والغرض بالقسمة الشرعية إنما هي دفع الحاجات والضرورات فسوى بينهم في ذلك .
وأما بالإعفاف من الطرفين من الوقوع في الحرام وبقضاء الأوطار وبسكون بعضهم إلى بعض ، وعودة بعضهم بعضا ، وبرحمة بعضهم بعضا حتى يصير أحدهما للآخر كالحميم الشفيق ، أو الأخ الشقيق ، يفضي كل واحد منهما إلى الآخر بما لا يقضى به إلى ولد ولا والد ولا صديق ، وكذلك بما يجب للنساء على الرجال من المآكل والملابس والمساكن ، وما يجب للرجال على النساء من لزوم البيوت والطواعية إذا دعاها من غير عذر شرعي ، ونقلها إلى أي البلاد شاء ، وإلى أي الأوطان أراد ، وتوريث كل واحد منهما من صاحبه ، وبما يندب إلى واحد منهما زائد عما يجب عليه . قيام الرجال والنساء بالمصالح
وأما فبما أوجبه الله عليهم من المآكل والمشارب والمساكن . انتفاع الرقيق بالسادات
وأما فبخدمتهم في كل ما أوجب الشرع خدمتهم فيه ، ويزيد الإناث على ذلك بالاستمتاع والانتفاع . انتفاع السادات بالرقيق