باب القول في إيمان المقلد والمرتاب
المقلد : من تدين ما تدين ؛ لأنه دين آبائه وقرابته ، وأهل بلده ، وليس عنده وراء ذلك حجة يأوي إليها .
والمرتاب : من يقول : اعتقدت الإسلام ، وتابعت أهله احتياطا لنفسي ، فإن كان حقا فقد فزت ، وإن لم يكن من ذلك شيء لم يضرني وواحد من هذين ليس بمسلم " .
وبسط - رحمه الله تعالى - فيه الكلام ، قال : " والمؤمن الذي ليس بمقلد رجلان : الحليمي
أحدهما : الذي عرف الله - تعالى جده - بالدلائل ، والحجج معرفة تامة لا شك معها ، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجج الدالة على صدقه ، ثم اعترف بالله ورسوله ، وقبل عن رسوله جميع ما جاء به من عنده ، وأسلم نفسه بالطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه .
والآخر من يؤمن بالله إجابة لدعوة نبيه بعد قيام الحجة على نبوته - وبسط الكلام فيه إلى أن قال - ثم ينظر فإن كان المؤمن قبل أن آمن يثبت الله - تعالى جده - إلا أنه يلحد في أسمائه وصفاته كان إيمانه الحادث ترك ذلك الإلحاد لما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه إليه .
وإن كان قبل ذلك لا يدين دينا ويرى أن لا صانع للعالم ، وأنه لم يزل على ما هو عليه الآن ، فوجه إيمانه بالله لدعوة نبيه هو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن للعالم إلها واحدا لم يزل ، ولا يزال ، ولا يشبه شيئا قادرا لا يعجزه شيء عالما ، حكيما كان ولا شيء غيره ، وأبدع كل موجود سواه ، واخترعه اختراعا لا من أصل ، وأنه أرسله إلى الناس ليعرفه إليهم وينبههم على آثار خلقه التي يرونها ، ويغفلون عنها ويدعوهم إلى طاعته ، وعبادته ، [ ص: 178 ] وأن دلالته على صدقه هي ما أيده به من كذا وكذا مما لا يستطيع الناس ، - وإن تظاهروا - أن يأتوا بمثله ، وإنه إذا كان واحد من الناس يجمعه وإياهم البشرية ، ثم يجمعه وأهل بلده الهواء والأرض والماء ، وكان ما عدا هذا - الذي يذكر أنه أمد به ليكون دلالة على صدقه - لا يباين فيه أحدا من الناس ، ويحتاج من الطعام والشراب إلى مثل ما يحتاجون إليه ، ولا يقدر من الأشياء المعتادة إلا على مثل ما يقدرون عليه ، ويعجز عما يعجزون عنه وجب أن يعلموا أنه من فضل هذا الذي اختص به مما هو خارج عن قضية العادات عاجز مثلهم ، وإنه وإن كان عاجزا عنه ، وقد وجد به وظهر على يده حق أنه ليس من صنعه ، ولكن من صنع غيره ، ولا جائز أن يكون ذلك الغير من جنسه أو مثله أو في القدرة نظيره إذ لو كان كذلك لاستحال وجوده من غيره كما استحال وجوده منه .
وفي ذلك ما يوجب أن يكون من صنع صانع لا يفعل الأشياء بمثل القوة ، والقدرة التي بها يصنع الصناع المشاهدون ، وأنه كما لم يشبه صنعه صنعهم ، فكذلك هو غير مشبه إياهم ولا جائز عليه من معاني النقص ما هو جائز عليهم فانتظمت حجته هذه إثبات الصانع على من يجهله ولا يعترف به ، وإثبات رسالته من عنده فمن استسلم لحجته وصدقه في جميع قوله ، وآمن بجملة دعوته كان إثبات الرسول والمرسل منه معا في مقام واحد .
فهذا وجه الإيمان بالله إجابة لدعوة رسوله إليه وهذا إجابة بحجة ، ومن هذا الوجه كان إيمان عامة المستجيبين للأنبياء ، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم . ثم قد كان فيهم من تنبه بعد فرأى ونظر وبحث ، فبصره الله من الدلائل ما شد به أزره ، وعصم دينه ، وقوى يقينه ، وطلب من هذا العلم ما ينصر به الدين ، ويجادل به أعداءه ، وينتصب به للدفع عنه " . [ ص: 179 ]