" مع الأوزاعي المنصور وعظته إياه " مقام
[ 7024 ] حدثنا ، أخبرني الحاكم أبو عبد الله الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن يزيد العدل الأدمي القارئ ببغداد قال قرأت عليه من أصل كتابه ، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن [ ص: 505 ] عبيد بن ناصح النحوي ، حدثنا محمد بن مصعب القرقسائي ، حدثني الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال : بعث إلي المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل ، فلما وصلت إليه سلمت عليه بالخلافة ، فرد علي وأجلسني ، ثم قال : ما الذي بطأ بك عنا يا أوزاعي ؟ قلت : وما الذي تريد يا أمير المؤمنين ؟ قال : أريد الأخذ عنك ، والاقتباس منك ، قال : فانظر يا أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئا مما أقول لك ، قال : وكيف أجهله وأنا أسألك عنه ، وقد وجهت إليك ، وأقدمتك له ؟ قلت : أن تسمعه ولا تعمل به يا أمير المؤمنين ، من كره الحق فقد كره الله ، إن الله هو الحق المبين ، قال : فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف ، فانتهره المنصور ، وقال : هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة فطابت نفسي ، وانبسطت في الكلام ، وقلت : يا أمير المؤمنين ، حدثني ، عن مكحول عطية بن بسر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما عبد أتاه موعظة من الله في دينه فإنما هي نعمة من الله سيقت إليه ، فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله ليزداد بها إثما ، ويزداد الله عليه بها سخطا " .
يا أمير المؤمنين ، حدثني ، عن مكحول عطية بن بسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . " أيما وال بات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة "
يا أمير المؤمنين ، إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولوكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان بهم رؤوفا رحيما مواسيا لهم بنفسه في ذات يده ، وعند الناس لحقيق أن يقوم له فيهم بالحق ، وأن يكون بالقسط له فيهم قائما ، ولعوراتهم ساترا ، لم يغلق عليه دونهم الأبواب ، ولم يقم عليه دونهم الحجاب ، يبتهج بالنعمة عندهم ويبتئس بما أصابهم من سوء ، يا أمير المؤمنين ، قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم ، مسلمهم وكافرهم ، وكل له عليك نصيب من العدل ، فكيف بك إذا اتبعك منهم فئام وراء فئام ؟ ليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه يا أمير المؤمنين ، حدثني ، عن مكحول قال : عروة بن رويم كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة رطبة يستاك بها ويروع بها المنافقين ، فأتاه جبريل فقال : يا محمد ، ما هذه الجريدة التي قد كسرت بها قرون أمتك وملأت بها قلوبهم رعبا ، فكيف بمن شقق أبشارهم ، وسفك دماءهم ، وخرب ديارهم ، وأجلاهم عن بلادهم ، وغيبهم الخوف منه ، [ ص: 506 ] يا أمير المؤمنين ، حدثني ، عن مكحول زياد بن جارية ، عن : أن حبيب بن مسلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدشة خدشها أعرابيا لم يتعمده ، فأتاه جبريل فقال : يا محمد إن الله لم يبعثك جبارا ولا متكبرا ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اقتص مني " فقال الأعرابي : قد أحللتك بأبي أنت وأمي ، وما كنت لأفعل ذلك أبدا ، ولو أتيت على نفسي فدعا الله له بخير ، يا أمير المؤمنين ، رض نفسك لنفسك ، وخذ لها الأمان من ربك ، وارغب في جنة عرضها السماوات والأرض التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : . " لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها "
يا أمير المؤمنين ، إن الملك لو بقي لمن كان قبلك لم يصل إليك ، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك يا أمير المؤمنين ، تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك ؟ ( مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) .
قال : {الصغيرة} التبسم و {الكبيرة} الضحك ، فكيف بما عملته الأيدي وأحصته الألسن ، يا أمير المؤمنين ، بلغني أن قال : لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخفت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك ، يا أمير المؤمنين تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك ؟ ( عمر بن الخطاب يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) .
قال : يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلج على صاحبه فأمحوك من نبوتي ، ثم لا تكون خليفتي ولا كرامة ، يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلمهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة ليجبروا الكسير ويدلوا الهزيل على الكلاء والماء يا أمير المؤمنين إنك قد بليت بأمر لو عرض على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه ، يا أمير المؤمنين ، حدثني ، عن يزيد بن يزيد بن جابر عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري : أن استعمل رجلا من عمر بن الخطاب الأنصار على الصدقة فرآه بعد أيام [ ص: 507 ] مقيما فقال له : ما منعك من الخروج إلى عملك ؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله ؟ قال : لا ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من وال يلي شيئا من أمور الناس إلا أتي به يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه فيوقف على جسر في النار فينتفض به ذلك الجسر انتفاضة يزيل كل عضو منه عن موضعه ، ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسنا نجاه إحسانه ، وإن كان مسيئا انحرق به ذلك الجسر ، فهوى به في النار سبعين خريفا " .
فقال له : ممن سمعت هذا ؟ قال : من أبي ذر وسلمان ، فأرسل إليهما فسألهما فقالا : نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : واعمراه من يتولاها بما فيها ، فقال عمر : من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض . أبو ذر
قال : فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى ، وانتحب حتى أبكاني ، ثم قلت : يا أمير المؤمنين ، قد سأل جدك العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة على مكة أو الطائف أو اليمن ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : عباس يا عم النبي نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها " نصيحة منه لعمه وشفقة منه عليه ، وأنه لا يغني عنه من الله شيئا إذ أوحي إليه ( " يا وأنذر عشيرتك الأقربين ) .
فقال : عباس عم النبي ، ويا عمة النبي ويا صفية إني لست أغني عنكم من الله شيئا ، لي عملي ولكم عملكم " فاطمة بنت محمد . " يا
وقد قال : لا يقضي بين الناس إلا حصيف العقل ، أريب العقدة لا يطلع منه على عورة ولا يحنق على جرته ولا يأخذه في الله لومة لائم . عمر بن الخطاب
وقال علي رضي الله عنه : السلطان أربعة : فأمير قوي ظلف نفسه ، وعماله ، فذلك [ ص: 508 ] كالمجاهد في سبيل الله ، ويد الله باسطة عليه بالرحمة ، وأمير ظلف نفسه، وأرتع عماله لضعفه ، فهو على شفا هلاك إلا أن يتركهم ، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شر الرعاة الحطمة " .
فهو الهالك وحده ، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعا .
وقد بلغني يا أمير المؤمنين : أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتيتك حين أمر الله تعالى ذكره بمنافيخ النار ، فوضعت على النار لتسعر إلى يوم القيامة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل صف لي النار " فقال : إن الله تعالى ذكره أمر بها ، فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت ، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة ، لا يطفأ لهبها ولا جمرها ، والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار ظهر لأهل الأرض لماتوا جميعا ، ولو أن ذنوبا من شرابها صب في مياه أهل الأرض جميعا لقتل من ذاقه ، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله عز وجل وضع على جبال الأرض لذابت ، وما استقلت ، ولو أن رجلا أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه ، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل لبكائه ، فقال : تبكي يا محمد وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبدا شكورا ، ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه ؟ " .
فقال : إني أخاف أن أبتلى بمثل ما ابتلي به هاروت وماروت ، فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي عز وجل فأكون قد أمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتى نودي من السماء أن يا جبريل ، ويا محمد ، إن الله عز وجل قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما ، وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن قال : اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من قال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين ، يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله عز وجل ، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى ، وإن من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه ، فهذه نصيحتي والسلام عليك ثم نهضت ، فقال : إلى أين ؟ فقلت : إلى البلد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله ، قال : قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك ، وقبلتها بقبولها ، والله عز وجل هو الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين [ ص: 509 ] وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل ، فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثلها ، فإنك المقبول القول غير المتهم في نصيحته ، قلت : أفعل إن شاء الله . عمر بن الخطاب
قال محمد بن مصعب : فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله ، وقال : أنا في غنى عنه ، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من أعراض الدنيا كلها ، وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في رده .
قال : هذا حديث تفرد به الحاكم أبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح الأديب وهو مقدم في أصحاب الأصمعي يلقب بأبي العصيدة حدث عن يحيى بن صاعد وغيره من الأئمة .